شعار قسم مدونات

لِمن الحبُ اليوم!

blog_ الحب عند العرب

تأملتُ كثيراً قبل أن أكتب، قبل أن أُلقى بما في قلبي على ورقى، قبل أن أبوحَ بما في خلدي، ولكن ما حيلتي فقد راودتني تلك الأفكار، وغلَّقتِ الأبواب، وسلَّمت لي نفسها وقالت هَيت لك، فهممتُ بها تاركاً إياها، وشَهِدَ شاهدٌ من قلبي فحملني على أن أكتب. "إني رُزِقت حبها.." كلماتٌ آسرةٌ وعذبه فيا جمالَ من قالها ومن قِيلت لها، قالها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حقِ السيدة خديجة وهو يخاطبُ عائشة – رضي الله عنه – إني رزقت حبها، فكيف يكون الحُب رزق؟! إنه حبٌ في القلب قد استقر، هِبةٌ من الله تعالى، رزقٌ منه وفضل، يصنعه الله على عينه فيدُوم ويُثمِر، حتى أن عائشة – رضي الله عنها – كانت تغار منها حتى وهي ميته.

الحُب.. ليس كلاماً معسولاً يُقال، ولا حُروفاً منمقةً تُكتب، ولا تملُقاً للحبيبِ حِيناً، إنه أكبر من كل هذا، ربما هو روحٌ تُحْيِيك.. وماءٌ يَرويك، يرويك بعد ظمأٍ عشت فيه لسنين. ألا فليعي شبابَ أُمتِنا هذه المعاني لتحيا بها القلوب، وتعمرُ بها النفوس. بدلاً من هذا الحال الذي يحيياه شبابُنا اليوم في مجتمعاتنا من إسفافٍ في الكلام، وتملُقٍ عند اللقاء، ومشاعرٌ زائفه، ومواقفٌ فاضحه، ومشاهدٌ يندى منها الجبين، وتكادُ القلوبُ تبكي ألماً على هذا الحال وما ذلك إلا لأنها أجسادٌ غير مصانة، وألفاظٌ غيرُ منضبطة والنهاية مُفزعةً في كثير منها حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. فأين هذا الحُب من ذاك! إن القصص والروايات الرومانسية وحدها لا تكفي، فقد يلتقي أبطالُها في النهاية، في نهايةٍ سعيدة، ولكن الواقع على غير ذلك أحياناً. فمن كان يعيش بين دفَتي كتاب، يجد نفسه يعيش بين دفتي حياه، قلوب أصحابها متقلبة وأمزجَتهم متحركة، وأفئدتهم هواء، فقد يُفتن الجميع تحت هذا المسمى (الحُب) فُتن الشاب، وفُتنت الشابة، وفتن الكثير من البيوت الخالية من الحُب الرومانسي، وهم لا يدرون أهو حُب في مرضات الله أم لا؟!

جميعُنا يبحثُ في عينِ من يُحب عن نفسه وذاته، يبحثُ في نَفْسِ من يُحب عن أحلامه ووجدانه، يبحثُ عن الراحة الغائبة، والسكينة المفقودة، والأمل الضائع، نبحثُ لِنُكمل بعضنا بعضاً.

الحب يَمنحُ الأشياء رونقها، كل الأشياء في حضرة الحب تبدو خلابة، فالمُحِب يحيا وكأن الكون يعيش حبه معه، فالكونُ سعيدٌ بسعادته، ومضاءٌ ببهجته، وينشد معه نفس النشيد.. نشيد الحُب والمُحِبين. ولكن هل أصبح التعبير عن الحُب في مجتمعاتنا لا يتم إلا في العلن، وعلى ملأٍ من الناس، فيعلم به القاصي والداني، ويستهجنه القريب والبعيد، فهي ثمارٌ مكشوفة في العراء، قلما تحتفظ بجمالها، وقلما تجد من يشتريها. هي ثمرة رخيصة مبتذلة، تُسَوّق في كثير من الأحيان في عالَم التكنولوجيا الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي. فنجد تسابق المُحِبين نحوَ من سيكتب لحبيبه الأول؟! هو سباق وهمي مفسد للعلاقات وللبيوت "الحب لا يعيش سوى في المجال الخاص، وإذا عُرض في المجال العام يموت أو بالأحرى ينطفئ ويبطل" – هكذا قرأت يوما

إن الحُب وحده من يستطيع أن يُضيئ لنا طريقنا نحوَ العالَم الآخر، كمن يعيش في غرفةٍ معتمة لا يرى فيها شيئاً، حتى جاءه شعاع الحُب فأضاء له ما حوله، وأنار طريقه فأبصر بما وراءه. وتعلمت أن الحياة من غير حُبٍ لا طعم لها ولا ضياءَ فيها، ولا رغبة لها ولكن الأهم من ذلك.. (لِمَن الحُب اليوم؟!) هل هو لصاحِب المال والجاه، لصاحِب المسكن الفسيح، لصاحِب السيارة الفارهة، لصاحِب الوجه الوسيم، والابتسامة الجذابة، والشعر الأشقر؟! هل هو لصاحِبة العيون الجميلة، والقوام الممشوق، والضَحِكات الصاخبة، والثياب المُبتذلة؟! هل كان الدينُ أساساً في الاختيار أم كان ثانوي؟ هل كان شرطاً في وجوده أم كان شرطاً في غيابه؟! هل تصورنا كيف سنحيا معاً بعد الزواج؟! هل سبق الاختيار استخارة أم لا؟! جميعُنا يبحثُ في عينِ من يُحب عن نفسه وذاته، يبحثُ في نَفْسِ من يُحب عن أحلامه ووجدانه، يبحثُ عن الراحة الغائبة، والسكينة المفقودة، والأمل الضائع، نبحثُ لِنُكمل بعضنا بعضاً.

فيا من تبحثون عن الحُب، الحُب معنىً راقٍ، ومشاعرٌ فياضة، ومواقفٌ معبرة، ومودةٌ ورحمة، ورأفة وسكينه، وتمازجٌ وتداخل، كالليل والنهار، والشمس والقمر، والبحر والسفن، والنجوم والسحاب. فلنبحث عن الحُب بحثاً دقيقاً واعياً متئداً، ليفضي إلينا بثمارٍ لطالما انتظرناها، وعشنا نستشرِفُها على أمل أن نراها رأى العين. يقول الشاعر: ولولا الهوى ما ذُلّ في الأرض عاشقٌ.. ولكن عزيز العاشقين ذليلُ. قديماً كان الحُب أشهر ما تنافس فيه الشعراء، وتفننوا في وصف معانيه، به تبدأ القصائد، وتَنْهَل معانيها:

أمر على الديار ديار ليلى

أُقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حُب الديار شغفن قلبي

ولكن حُب من سكن الديارا

أيها المتحابون لا تتخلوا عن حُبكم ولا تشتروا به ثمناً قليلاً، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، فيكون مالا نرجوه ومالا يُحمد عقباه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.