شعار قسم مدونات

الطريق إلى روما..

blogs روما

عقدت عزمي على السفر إلى روما بالحافلة من مدينة توبنغن الألمانية، فلما جهزت أمتعتي وركبت حافلة من مدينتي توبنغن إلى شتوتغارت وأنا في منتصف الطريق، تذكرت أني قد نسيت جواز سفري، وكان ذلك في منتصف الطريق تقريبا من توبنغن إلى شتوتغارت، وكنت عند ركوبي الحافلة سألت سائق الحافلة مباشرة بأن هذه الحافلة تذهب إلى المطار أم لا؟!، فلما تذكرت أني نسيت جواز السفر، سارعت بالنزول من الحافلة في المحطة التالية على التو، وذهبت إلى الطرف الآخر كي أركب لأرجع إلى البيت، فناداني سائق الحافلة الألماني وقال لي: إنك كنت تريد المطار وهنا ليس المطار، المطار لا زال بعيدا، فقلت له: أنا آسف لقد نسيت جواز سفري، ولا بد أن أرجع، ورجعت مهرولا، على أمل ضعيف أن أصل إلى البيت وآخذ جواز السفر وأرجع مرة أخرى للسفر إلى شتوتغارت ثم الركوب إلى روما.

 

لكن الأمر لم يتم وكنت أعرف أنه لن يتم، لأن الوقت كان ضيقا جدا، كان الأتوبيس بقي على إقلاعه ساعة تقريبا، والمسافة بين توبنغن إلى شتوتغارت كانت ستستغرق حوالي ساعة وقليل، لذا وصلت البيت وخاب أملي في الذهاب من تلك الليلة، وبعثت إلى السيدة التي كانت ستستضيفني، وقلت لها: عذرا لقد حصلت مشكلة اضطررت على إثرها أن أؤجل سفري، فقالت لي: ليست مشكلة ثم ألغت حجز الليلتين وأبقت على ليلة واحدة فقط، فبعثت لها مرة أخرى وقلت: إنني سأقيم ليلتين ولن أقيم ليلة واحدة، فبعثت إلي قائلة: لا أحد يريد أن تخسر نقودك، ففهمت من كلامها أن الموضوع من الممكن أن يحل حينما أكون في روما القديمة.

 

جهزت عدتي من اليوم التالي كل شيء، جواز السفر شنطتي وبها اللاب توب جهاز الحاسوب الخفيف وتوابعه ثم القلم والدفتر وقليل من الملابس، ثم خرجت مبكرًا لأركب من توبنغن إلى شتوتغارت وصلت إلى مدينة شتوتغارت، وبدأت أنتظر الحافلة في المحطة المخصص لها وهي مكان متوسط المساحة به عدة خطوط، كل خط عليه لوحات إلكترونية بقوائم الدول التي ستذهب إليها الحافلات، وبينما أنا واقف منتظر الحافلة إذا جاءتني رسالة على الهاتف بأن "الحافلة سوف تتأخر ساعتين، وإن لم ترجع عن قرارك في السفر سوف نزودك بكوبون هذا الكوبون ممكن أن تستعمله في الذهاب لدولة أخرى كما تريد".

 

الإيطالية جميلة في السماع، إذا سمعتها يتملك شعور بالضحك أو الرغبة بالرقص على أنغامها فهي كالطبلة تماما، كلماتها تنتهي دائما بحرف متحرك

فقلت في نفسي: لو كان هذا التأخير بالأمس، لاستطعت أن آتي بجواز سفري وألحق الحافلة بشتوتغارت، لكن لا بأس فإن ما خسرتُه بالأمس، قد تعوض بما حدث اليوم، وانتظرت في المحطة وتوالى على المكان بعض الطليان، ولا غرو فنحن مسافرون إلى وطنهم، وقد أحسست من اللحظة الأولى أنهم مختلفون كثيرا عن الألمان وطبيعة الألمان، وقد تأكد هذا عندي حينما ركبت الحافلة وركبوا جميعا، وتأكد أكثر حينما وصلت إلى هناك وعشت هذين اليومين، على أي حال فالألمان كل شيء عندهم بنظام ورزانة وهدوء ومن الممكن أن يقتلك هذا أحيانا.

 

أما الطليان فتشعر أن دمهم حامي كما نقول نحن في عاميتنا، وبالفعل حينما ركبت الحافلة كانت الحافلة هذه المرة مختلفة عن أي مرة سابقة، فقد ذهبت قبلها إلى زيوريخ وإلى باريس وغيرها من مدن أوربا العليا، فحينما تقارن الحافلة بهذه المرة فإن حافلة إيطاليا كانت صاخبة بعض الشيء، والطليان فيها يتحدثون ويضحكون ويقهقهون بصوت عال، ويسخرون من بعضهم البعض، ويهزل معهم سائق الحافلة بنفس طريقتهم فهو أيضا إيطالي، وكانوا يضحكون مع السائق ومعاونه وأنا لا أفهم شيئا، فكل كلامهم بالإيطالية وأنا لا أعرف من الإيطالية إلا بوناسيرا وبونجورنو وجراتسي وأمثالها من الكلمات البسيطة، التي علقت في ذهني من الثانوية العامة، وقد درستها سنتين، فلو كان عندي نصف الوعي الذي عندي الآن للتعلم، لكنت تعلمتها عن ظهر قلب فهي لغة ممتعة جميلة سهلة التعلم.

على أي حال نحن لا زلنا في الأتوبيس، والإيطالية جميلة في السماع، إذا سمعتها يتملك شعور بالضحك أو الرغبة بالرقص على أنغامها فهي كالطبلة تماما، كلماتها تنتهي دائما بحرف متحرك. كان الطريق من ألمانيا طويلا جدا حوالي خمس عشرة ساعة، وأثناء الطريق أوقفتنا الشرطة غيرة مرة،وذات مرة ونحن على حدود ألمانيا دخل علينا ضابطان وطلبا جوازات السفر، وتفقداها ثم نادى على رجل أسمر اللون، شعره كشعر الأفارقة من الشمال المصريين والمغاربة، ودعوه كي ينزل من الحافلة، فقام الرجل وهو يبتسم ويقول للراكبين: باي باي بمرح، فضحك كل من في الحافلة، وانتظرناه وهو كل هذا الوقت عند الضابط، حتى ظل نصف الساعة وبعدها عاد إلى مقعده في الحافلة دون أي شيء.

 

ثم جاء ضابط أخر ونحن في مكاننا ما برحناه، فنادي على الشاب الذي بجانبي، وكان شابا نحيفا أصفر اللون طويل الشعر أشقر اللحية والرأس أوربيا، وجلس عند الضابط ما يقرب من ربع الساعة، ثم أتانا وقال له أمامي: أنت تشرب الماريجوانا؟، فقال له الشاب: لا، أنا لا أشرب الماريجوانا، ففتشه وفتش حقائبه، ونظر تحت الكرسي فلم يجد شيئا، ثم تحول إليَّ وأخذ حقيبتي وفتشها فلم يجد شيئا، وفتش مقعدي وتحته فلم يجد شيئا، ثم ذهب إلى حمام الحافلة وفتشه فلم يجد شيئا، وعاد الشاب إلى مقعده، وجاء معاون سائق الحافلة يحدث الراكبين، قائلا بألا أحد يشرب ماريجوانا في الحافلة، ثم أقلعت الحافلة ونجونا من الضباط الألمان الخشنين بعد طول انتظار بسببهم، ومررنا على عدة مدن في إيطاليا منها ميلانو وفلورنسا وبولونيا حتى وصلنا إلى روما العتيقة.

ولما وصلنا نزلت أنا في موقف الحافلات في روما، وكان همي الأول هو الوصول إلى مكان الاستضافة حتى أضع أشيائي، ثم أنطلق، لم يكن معي غير العنوان، وكنت أظن الوصول إلى هذا العنوان أمرا سهلا، أسأل الناس فلا أستطيع أن أجد جوابا، فلا أحد يتحدث الإنجليزية ولا أحد يعرف العنوان أيضا، وكان بجانب الموقف سوق صغير به أفارقة يبيعون ملابس وحاجات، وعرضوا علي أن أشتري منهم شيئا فما وجدوا عندي جوابا فهمي الأول والأخير المكان.. فلما وجدوا الأمر كذلك أظهروا السآمة ومشيت، خرجت من هذا المكان إلى الشارع، فوجدت على الناصية فتاة وسيدة مُهندَمين يلبسان زيا واحدا، وأمامهما ستاند عليه بعض الكتيبات.

 

فذهبت إلى السيدة قائلا: هل أنتما مكتب معلومات للسياحة؟ فردت علي السيدة بالإنجليزية: لا، فقلت لها: أنا فقط أريد أن أصل إلى هذا العنوان، ولا أجد أحدا يدلني عليه، فقالت لي: نحن لسنا للسياحة، ولكني سأساعدك، ثم قالت لي: هل أنت مسيحي؟ تفاجأت بالسؤال وقلت لها: لا فقالت لي: لأننا ندعوا إلى المحبة والرحمة، لكن دعني أولا أبحث لك عن العنوان، ثم أحدثك عما ندعوا إليه، فأخرجت الحاسوب اللوحي، ونظرت في الخريطة، ثم قالت لي: أنت ستركب هذا الأتوبيس من هنا ثم تصل إلى محطة Del Ceno ثم تمشي من هناك إلى مكان الاستضافة، لكن دعني أعطيك هذا الكارت الذي به موقعنا الإلكتروني، فنحن لدينا موقع ضخم ربما ستجد فيه أشياء تهمك، فشكرتها، ثم ذهبت كي أشتري تذكرة للمواصلات.

 

ما الذي يجعل سيدة قد بلغت من العمر مبلغًا أن تفتح شقتها لضيوف يأتون من كل أنحاء العالم، دون أن تعرفهم، وفي الوقت نفسه هي لا تخاف من أحد؟!
ما الذي يجعل سيدة قد بلغت من العمر مبلغًا أن تفتح شقتها لضيوف يأتون من كل أنحاء العالم، دون أن تعرفهم، وفي الوقت نفسه هي لا تخاف من أحد؟!
 

وبمساعدة الناس من هناك وهناك وأنا أتنقل بين أنواع الترام والحافلات حتى وصلت إلى البيت بعناء، وصلت إلى بيت السيدة التي حجزت عندها قبل السفر عن طريق الانترنت، أصابني شعور لأول وهلة حينما دخلت الشارع الذي به البيت أنني في إحدى المناطق الشعبية النظيفة، الشوارع واسعة والمساكن قديمة عتيقة كالمساكن الشعبية عندنا، وأنا أنظر إلى البيوت بيت تلو بيت، حتى وجدت امرأة تنادي عليَّ من شرفتها بالدور الثاني، ثم دخلت البيت ذا الباب العتيق، والسلم القديم البلاط المزايكو، وصعدت إلى الدور الثالث فوجدتها واقفة على الباب.

 

تقول لي: أهلا وسهلا، هكذا شعرت لأني لا أفهم الإيطالية، وأشارت لي بالحجرة التي سأسكن فيها، والسيدة وجدتها عجوزًا قد بلغت السبعين تقريبا، لها شعر قصير منحول قد صبغته، طويلة ليست بالسمينة، ورغم كبر سن هذه السيدة فإنها قد فتحت حجرات شقتها للسائحين الوافدين من كل أنحاء العالم، وكانت وسيلة الاتصال بينها وبين هؤلاء الانترنت، وكنت أنا واحدا من هؤلاء الذين راسلهم عبر الانترنت، وكان الضيف الذي قبلي فتاة من روسيا، ثم أتيت فأخذت حجرتها ورأيتها وهي تودّع السيدة وتشكرها وتمشي بحقائبها.

تساءلت ساعتها ما الذي يجعل سيدة قد بلغت من العمر مبلغًا أن تفتح شقتها لضيوف يأتون من كل أنحاء العالم، دون أن تعرفهم، وفي الوقت نفسه هي لا تخاف من أحد؟! لا أنسى هنا أن هناك إجراءات تتخذها السيدة وتتخذها الحكومة للحفاظ علي حياتها… كتسليم صورة جواز السفر، قد يكون السبب في عمل هذه السيدة العجوز هو احتياجها للعمل، أو احتياجها لإثبات ذاتها بعد وفاة زوجها وتفرّق أولادها إن وجدوا فلا أدري ألها أولاد أم لا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.