شعار قسم مدونات

مُعيد في جامعة تل أبيب

blogs جامعة

"إنكم تحملون على ظهوركم كتباً مات لأجلها الكثيرون، ونحن في دواخلنا نحمل هموم وطن مفقود.. مات لأجله الكثيرون أيضا". أتَمْتِمُ متذمّراً نحوَ المارّةِ ثُمّ ألتفتُ إلى صديقي الغارقِ في قراءته: "هل في الصحافة شيء جديد؟" كنتُ أريدُ أن أسألَ هل صارَ القانون يجيز الأحلام!، وأنا الذي يذكر آخر مظاهرة جامعيّة فِقْتُ منها في معتقل المخابرات. يومها لم أحلمْ إلا بوقفةٍ في يوم الأرض.. فساقوني حيث سيقَ زملائي من ألوان وأحزاب أخرى، وكأنه شريط من أيام زغلول والحركة الطلابية في مصر. نظرْتُ إلى صديقي في تنهيدةٍ خفيفة إذ تذكرّتُ سؤالَ المخبرِ هل أصَلّي الفجر في جماعة، وكأنّ من بين جُموع القوميين والثائرين المعتقلين.. بِتُّ أنا في ذلك الوقت – المتّهمُ الأول في قلبِ نظام الفِكر!

   

عشر سنواتٍ كاملة من الغياب لمْ تمْنع عودتي إلى حرم الجامعة منْ جديد. وها أنا الآن.. بلهفةِ عجوز عائدٍ إلى شبابه، ومُغترِبٍ يَحِنُّ إلى مَسْقَطِ عقلِه.. أباشرُ لقباً ثانياً في العلوم الدقيقة. وكما في كُلّ البدايات المتكرّرة، تجثو الذاكرة على حبالها تسترجعُ أياماً قديمة. كنتُ آنذاك طالباً طرِيّاً أتعبهُ الجفاف والركود، يبحثُ عن صديق يُصارعُ مثله في دوائرِ الثقافات.. كالفراغات بين الأصابع تمسكُ يداً أخرى فتنقذها من السقوط. كنتُ بحاجةٍ إلى صديق لألعنَ إليهِ ذلك الملتحي وهُوَ يُسامِرُ إحدى فتيات الليل، ولأشكو إليه فتاةً مُسلمةً خلَعَت حجابَها بعد أن زيّنوا شَعْرَها المُنسدلِ شِعْراً، والحياةَ شهوات!

   

ها هُوَ يجلسُ أمامي مُنهمكاً في جريدته في مقهىً مُكتظٍّ بالمتحمسيّن لصباحِ اليوْمِ الأول، وأنا مُشتّت الذهنِ أرقبُ الطلابَ في نظراتٍ مُتعاقِبة وهُم ينسلّونَ مِنْ مساكنهم خلْفَ الأشجار والمَرْكبات. أشْرَعُ أتذكّر كيف كانت الأشجار الكئيبة في أروقةِ السكن تُخفي ورائها حكايات ومتاهات وقذارات. وفي تِلك الأروقة أيضاً.. صليتُ الفجرَ مرة ً بالجامعيين الجُدُدِ فتلعثمتُ وتلقّمْتُ الكلام مسرِعاً مرتعدا. أبَعْدَ كل تلكَ السنين في مساجد القريةِ.. أخطئ هُنا في سورةِ الأحزاب؟ أم تُراه بلغت القلوبُ الحناجرَ مِنْ هوْلِ الضياع؟ يا لأنّاتِ تلكَ السنين.. كيف تجبُلنا الذاكرة فتصقلنا باحتراف كعجينةِ الصلصال القديم.

 

ينتسبُ لجامعةِ تل أبيب – المبنيّة على أنقاضِ قرية "الشيخ مونّس" المهجرّة – الآلافُ مِنَ عربِ الداخل الفلسطينيّ مِنَ الجليلِ والمثلثّ والساحلِ والنقب، يَتدرّجونَ منذ تأسيسها في الشهاداتِ والألقاب الأكاديميّة

أعودُ اليومَ بعدَ أنْ تلقّيْتُ قبل شهريْنِ عرْضاً لأكونَ مُعيداً في إحدى المساقات الأساسيّة. ولا أدري لِمَ راودتني في الحالِ حقيقة تاريخية تزعم.. أنّ كل أموال جائزة نوبل التي حصل عليها آينشتاين قد ذهبت إلى زوجته السابقة كتسويةِ طلاق. فلسفيّاً، بدَت لي هذه الوظيفة.. مثلَ جائزة نوبِل وتسوية طلاقٍ فِعْلِيّة للصراع العربيّ اليهودي في آنٍ واحد. أنْ تكونَ مُعيداً في مكانٍ يعجُّ بالتناقضات كجامعةِ تل أبيب.. كانَ معناهُ أنْ تعتلي تلةً مِنَ الشغفِ لِتُطِلّ مِنْ جسورها على كُلّ المفترَقاتِ والمحطّات، ففي مثلِ هذه الأحرام الجامعية تتقاطع الدوائر الفكرية، وتلتقي النُظُم الثقافية، وتكثر السيولة المعرفية، ويُصبحُ الانكشاف على الآخر أمراً حتميّاً، وبات الانتقال بين هذه الدوائر سهلاً متناوَلاً. يرتاح فيها التناقض، وتتداخلُ فيها الأعراق واللغات وأهوالُ التطبيع والأسرَلة والتمييز، ليُحْجَبَ كُلّ ذلكَ بقداسةِ العِلْم – فهُنا.. لا فرق بين عربيّ أو يهوديّ إلاّ بِالعِلْم – أو هكذا يَزْعمون.

    

ينتسبُ لجامعةِ تل أبيب –المبنيّة على أنقاضِ قرية "الشيخ مونّس" المهجرّة– الآلافُ مِنَ عربِ الداخل الفلسطينيّ مِنَ الجليلِ والمثلثّ والساحلِ والنقب، يَتدرّجونَ منذ تأسيسها في الشهاداتِ والألقاب الأكاديميّة، ثم ينغمسون ما بعد التخرّج في مجالات العملِ ما بينَ مطرقةِ التطبيعِ الناعمة وسِنْدانِ المُواطنة – في رؤيةٍ تقول أنّ المجتمع العربي بحاجةٍ مُلِحّة إلى أبناء الطبقة الوسطى مِنْ أصحاب الألقاب المتجانسة.

    

في هذه الجامعةِ أيضاً مُحاضِرون وأعضاءٌ في الهيئة التدريسية هُم مِنَ العرَب.. مِمّن سبقوني والجميعَ في إنجازاتهم وألقابهم ومحافلهم. لكنّ الفِكرة بَدَتْ لي مختلفةً عنْ طوْرِ العادة، فهذا الحرم الجامعي مليءٌ بالمربّعات المتقاطعة، في كل خانةٍ مِنها حرفٌ فِكرِيٌّ مشكوك به، كمِثْلِ أحجار الشطرنج لا تدري بأيّها ستلعب، وأيّها سيخترق قلعتكَ المتينة، وأيّها يتربّصُ للجنود والخيول والحاشية ليُطيح بالملِك العزيز – ملكِ الثوابت التي حَرِصْتَ طَوالَ العمرِ أن تصونها.  إنّكَ إنْ تكُنْ مُعيداً.. معناهُ مثلاً أنْ تتجنّبَ النقاشَ حول عُمرِ البشريّة عِلمِيّاً بما قد يخالف "البريشيت" (الفصل الأول في التوراة)، ومَفادهُ أنْ تحذرَ مِنَ الحديثِ عن الإلهِ الذي فرَض ذبْحَ القرابين والأضاحي إذا ما حاوَرَكَ أحَدُ أولئكَ الطبيعيون المُشفقون على دماء البهائم، بَل وأنْ تمتنِعَ حتّى عن صِراعِ الإيمان والإلحاد وأحاديثِ الفلسفةِ ولُغةِ العقول. معناهُ أكثر أنْ تُؤَدي أمانةَ العلمِ إلى طالبيها.. دونَ انحياز أو تشتيتٍ أو توَسّعٍ أو حتّى رِسالة.

 

على عُشْبِ الجامعةِ.. كمِثلِ كوكب زُحَلٍ.. كانت أسرابُ الطيور تُشِعُّ بانتظام هادئ، وجماعات مِنَ الطلاب تتراكضُ في خطوطٍ مُتشعّبة حينَ تمْتمَ صديقي بعِبرِيّةٍ مَحْكِيّة ساخراً مِنْهُم: لو تعلم كم أُشْفِقُ على هؤلاءِ الصغارِ اليافِعين؟ حتّى هذه اللغة ستصفعهم بالخيْبة! تلكَ حقّاً كانت دوّامة أخرى لِصِراعٍ مُحتَدِم. ففي الوقتِ الذي يستصعبُ فيهِ الطالبُ العربيّ في بدايةِ مشوارِهِ. إتقان اللغة العِبريّة ما بيْنَ الشروحاتِ والأسئلةِ والمُحاضرات واللقاءات، ثمّة أزْمة أخرى يواجهها المُعيدُ المسكين. عالقٌ في ذهنِي ذلك المشهد قديماً حين اندَفَعْتُ للمُحاضِر العربيّ أبغي استفسارا جانبياً بلغة الأم، فنهَرَني زاعماً أنّهُ لا يَقبل إلاّ عِبريّةً احتراما للطلاب الآخرين. تتبدّلُ المَشاهِدُ اليومَ، فأقِفُ مكانهُ تماماً.. فلا أدري.. أتصيبني غضبةٌ مشابهة أمْ سأكتفي بالتحذير؟

 

بداياتُ العمل تبقى دوماً مجهولة حتى تؤول إلى تجربة مخاضها عسير.. حتّى وإنْ كانت في أكاديميةٍ مرموقةٍ كهذه. في صباحِ اليوم الأول، تَفْتَحُ اللهفةُ أشرِعَتَها في الممرات والساحات، ونظرات الجامعيين الجُدُد إلى هذا المُعيد القادم من عِرْقٍ عربيّ لم تكُن روتينية عابثة، بل سَجِيّة بالفضول غنيّة بالتساؤلات. في أولّ الممرّ الطويل الذي يخترق بنايات العلوم الدقيقة كالكيمياء والفيزياء والرياضيات ومختبرات الفضاء.. عُلّقت صورة لآينشتاين بشعرِهِ المتطاير وقدْ بدا لي شاخصَ العينين يُخبرني هامساً: "لستُ ذكيّاً بقدر ما أقضي وقتاً أطول في حلّ المشاكل". أوْمَأْتُ غيرَ مُعترِضٍ كأنّها مقولة استئذان شخصيّة تدعوني لخوْضِ غِمار التجربة.   لطالما كانَ هذا العبقريّ محلّ إبهاري وإعجابي فأغفلُ عن إلحاده ويهوديّته، لولا أنّ فتاةً محجبّةً وقفت تتأملّهُ في شغفٍ فتسلّلت إلى ذهني مرةً أخرى.. فروقُ الديانة. كالذي يسير في البيداءِ وَجَدْتُ ضالتّي في قاعةٍ ضيّقة، ودون أن أهتمّ بقوميّةِ الجالسين على المقاعدِ المتناثرة في عبَثٍ متعمّدٍ.. بادرتهم بإعلانٍ مُتَلَهِّف: لدينا هذا الفصلَ الكثير لنتعلمه! عَلِمْتُ أنّ النجاةَ تكمنُ في خطّيْنِ متوازيَيْن يتوجّبُ التفريقُ بينهما، وأنّ هذا الواقع المُعَقّد المتجانس كالفواكِه الملّونة.. ما هُوَ إلاّ غطاءٌ مؤقّت لشجرِ الزيتون الأزليّ – مَهْما رضيَ بالتفريط في حبوبِهِ، إلاّ أنّهُ أبداً لا يقبل الاقتلاع!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.