شعار قسم مدونات

اغتيال خاشقجي.. هل هو إيذان بتغيرات وازنة في المنطقة؟

blogs جمال خاشقجي

عندما يتعلق الأمر باغتيال شخصيات عربية بارزة فإن غالبا ما يلف عملية الاغتيال غموضٌ كبير، وكذلك حصل مع الشهيد رفيق الحريري الذي لم تراوح قضيته مكانها منذ 2005 ولم تصل بعد لحكم قاطع يدين جهة من الجهات، وهنا تُثار العديد من علامات الاستفهام حول الظروف التي تتم فيها عمليات الاغتيال والأطراف الفاعلة فيها.

للوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن في ظل المعطيات المتوفرة أن السعودية هي من قامت بتصفية الصحفي جمال خاشقجي، ولكن شيئا ما يشدّنا إلى التصديق بأن السعودية وإن كانت هي المسؤولة المباشرة عن عملية الاغتيال إلا أن أيادٍ خفية دفعتها للقيام بالجريمة، وإذا وضعنا الحادث في سياقه السياسي الآني نجد أن هناك ضغوطات سياسية هائلة تمارَسُ على السعودية من قبل الرئيس الأمريكي ترمب تُجبرها علانيةً في أكثر من مرة على دفع مبالغ كبيرة لخزينة الولايات المتحدة مقابل حمايتها من بعبع إيران على حد قول ترمب، والتلميح كذلك بإلغاء صفقات مهمة مع السعودية إن هي رفضت ذلك.

 

فتوقيت هذه الجريمة وإصرار ترمب على تلقي الأموال من الرياض يدفعنا إلى الشك في أن الولايات المتحدة وراء هذه العملية ولو من بعيد، هادفة إلى تشكيل ضغط كبير على السعودية مقابل التنازل عن ثرواتها لشركة ترمب، وفي مقابل ذلك تقوم واشنطن بالتضليل حول ملابسات الجريمة حتى لا تتضح الحقائق كاملة للعالم وتدفن مع مرور الزمن، وقد تضغط كذلك على الجانب التركي لتغيير منحى التحقيقات وإخفاء الأدلة التي تدين السعودية بصفة مباشرة.

 

الخاسر الأكبر من اغتيال جمال خاشقجي هي السعودية، وقد تكون هذه الحادثة بداية لنهاية مشروع سعودي مهترئ القواعد، وتبقى تركيا الرابح الأكبر لأن عملية الاغتيال تمت على أرضها

ونحن نرى كيف أن أمريكا ركّزت بشكلٍ كبير على قضية اغتيال خاشقجي، في حين لم تحرك ساكناً تجاه العشرات من معتقلي الرأي في السعودية بل ولم تبد أي رد فعل عندما احتُجز الوليد بن طلال في الواقعة المشهورة وهو شخصية عالمية غنيّة عن التعريف، إذن لدى واشنطن مصلحة في اغتيال الصحفي خاشقجي، فإما أن تكون قد سعت فعليا من وراء هذه المصلحة، وإما أن تكون قد وجدتها فرصة سانحة وأرادت استغلالها والركوب عليها لضرب عصافير كثيرة بحجر واحد، ولا شك أن أمريكا تعرف كل ما راج داخل القنصلية السعودية في أنقرة وبمقدورها الاستماع للحوارات التي دارت بين جمال خاشقجي والمحققين السعوديين بالنظر إلى ما تملكه من ترسانة تجسس فائقة التطور، فلماذا لم تتحرك إذن لإنقاذه وإخبار السلطات التركية بالحادث فوراً إن كانت بالفعل حياة خاشقجي تهمّها بآي حالٍ من الأحوال.

ولنعد قليلاً إلى الجريمة، فكل المؤشرات تدل على أن جمال خاشقجي دخل إلى القنصلية دون أن يخرج منها حتى الآن، وبالتالي فقد صُفي بطريقة أو بأخرى هناك، لكنني أرجح أن خاشقجي خرج من القنصلية إنما خرج جثة مقطعة إربا إربا حتى يسهل التعامل معها وإخفاءها، أو أنها ذُوّبت بسائل كيماوي فمُحي أثرها على الإطلاق، خصوصا وأنّ من بين الأشخاص الخمسة عشر الذين سبقوا خاشقجي إلى السفارة قبل التحاقه بها طبيب تشريح سعودي، فما يكون دور طبيب التشريح سوى تقطيع الجثة بطريقة احترافية وسريعة ومحاولة التخلص منها، نعم هكذا خرج جمال من القنصلية قِطعا صغيرة محمولة في حقائب ليتمّ التخلص منها بطريقة ما، أما فريق التخطيط السعودي فلم يكن يعلم أن خاشقجي سيُصوَّر وهو داخل إلى القنصلية خصوصاً وأن جميع الكاميرات التابعة لها قد أُتلفت، وربّما أن تعطشهم للنيل من جمال أنساهم تفاصيل مهمة غيرت معالم اللعبة برمتها.

لكن المفاجأة أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن تتوقع حجم الضغط الذي خلّفه اغتيال خاشقجي، وبالتحديد من طرف الصحافة الأمريكية التي كان جمال نفسه طرفاً منها، انتهاءً بأعضاء مجلس الشيوخ بما يمثلونه من ثقلٍ سياسي كبير، إضافة إلى أن العالم كله تفاعل مع قضية خاشقجي وأبدى رفضه القاطع لهذه الجريمة التي تُمثل تحدياً صارخاً لحقوق الصحافة عبر العالم، وبالتالي لن تستطيع السعودية الخروج من هذه الأزمة وإلصاق التهمة بدولة أخرى لأن عناصر كتيبة الاغتيال هم أصلاً سعوديون منهم ضباط سامون وأطباء وشخصيات وازنة في الدولة وقد صُوّرت كل تحركاتهم وسكناتهم ولم يبق هناك مفرٌ من تحمل المسؤولية كاملة.

السعودية في ورطة حقيقية لأن الجريمة ثابتة عليها والأفضل لها أن تلتزم الصمت لأن المبررات التي بصدد إعدادها للعالم أكثر غباء من حيثيات الجريمة نفسها وتثير الضحك إلى حد الاشمئزاز
السعودية في ورطة حقيقية لأن الجريمة ثابتة عليها والأفضل لها أن تلتزم الصمت لأن المبررات التي بصدد إعدادها للعالم أكثر غباء من حيثيات الجريمة نفسها وتثير الضحك إلى حد الاشمئزاز
 

الخاسر الأكبر من اغتيال جمال خاشقجي هي السعودية، وقد تكون هذه الحادثة بداية لنهاية مشروع سعودي مهترئ القواعد، وتبقى تركيا الرابح الأكبر لأن عملية الاغتيال تمت على أرضها وهي اعتداء على سيادتها وانتهاك صارخ لاتفاقية جنيف وبالتالي فإن أنقرة ستحظى بتعاطف دولي كبير خصوصا بعد أن أفرجت وفي توقيت سحري للغاية عن القس الأمريكي حتى لا تدع مبرراً للولايات المتحدة الأمريكية يدفعها لاتهام أنقرة بشكل من الأشكال بضلوعها في اغتيال خاشقجي، وفي نفس الوقت عرفت قيمة الليرة التركية انتعاشاً ملحوظاً في حين تكبّدت السعودية خسائر اقتصادية بالمليارات في غضون أيام معدودة.

خطوة سياسية بهذه الخطورة أو دعنا نقول بهذا الغباء الواضح كيف لم تتفطن السعودية لعواقبها الوخيمة، خصوصا وأن المنطقة تعرف فيما يُشبه حربَ أخطاءٍ حادة كل طرف يتصيّد هفوة الطرف الآخر وترمب نفسه في هذه الأيام يعيش حالة غريبة من الشراهة المادية ويريد الأموال بأية طريقة، غير أن أمريكا وإن أرادت تقديم الدعم للسعودية بأي شكل من الأشكال إلا أنها تقبع بين سندان الإعلام الأمريكي الضاغط ومطرقة المنتظم الدولي الرافض بشدة للجريمة، فليس من السهل عليها تجاهل كل هذا ولو كانت إغراءات السعودية في أعلى درجات السخاء.

 

وأتمنى ألا تُجبر تركيا على الرضوخ لصفقةٍ قد تكون الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً غير مباشر فيها وتواصل تعاملها الرزين مع القضية وسريان التحقيقات النزيهة حتى تحافظ على مصداقيتها. إن السعودية في ورطة حقيقية لأن الجريمة ثابتة عليها والأفضل لها أن تلتزم الصمت لأن المبررات التي بصدد إعدادها للعالم أكثر غباء من حيثيات الجريمة نفسها وتثير الضحك إلى حد الاشمئزاز، وقضية خاشقجي قد تكون السبب في بلورة تاريخ جديد يُغيّر معالم مهمة في المنطقة ستشكل بلا شك مفاجآت غير متوقعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.