شعار قسم مدونات

عندما دق السرطان بابنا..

blogs مستشفى

دقّ هذا المرض بابنا بكل قسوة، بل ولم يكتفي بذلك، بل اِقتحم بيتنا بدون استئذان، واحتل عائلتنا بدون سابق إنذار وتهجم على حُرمانية أهلنا بلا صراع ولا جِدال. مرّ من الوقت ما يقويني نوعًا ما لأستطيع سرد قصتي بشيءٍ من التفصيل. خالتي، نعم تلك التي سبقت أُمي بسنواتٍ قليلة، كانت من أحب الناس إلى قلبي بالتأكيد، حتى الآن لا أُصدق والله، وقوفي ثابتة في عزائها وجنازتها، ما هو إلا إنّي خيلته كابوسًا يُقلق نومي. إلى الآن وعقلي لا يؤمن بأنها في النسيان، لا أتْبِعُ اسمها بالرحمة فلم يعِي عقلي هذا بعد! ولكن لعلها ماتت أمامي العديد من المرات منذ علمت باحتلال هذا المرض لجسدها هذا السرطان اللعين!
 
و كم بكيت عليها في الخلوات فوالله ما أدركت صعوبة أن تكون طبيبًا إلا في تلك الساعة، أن تدرك ما ستؤول إليه الأمور رُغمًا عنك مكتوف الأيدي !أذكر تلك الساعة التي ذهبت فيها إلى أحد أساتذتي لأخبره بشيءٍ من التفصيل لعله يُريح قلبي ويُثلج صدري، ولكنه أخبرني أن لا مفرّ من قضاء الله. تهجمت عليه في نفسي وما لك أن تقول هذا؟ وأن كيف لك العبث معي بهذه الطريقة! واتصلتُ بها أُطمئنُها أن كل شيءٍ بخير وأنتِ على ما يُرام لا تقلقي، ولكنّي بكيت كثيرًا ليلتها. لكنّ رؤيتها تمشي وتتكلم كان يمسح عنّي ألمي قليلًا وأُهوّن بِه وعثاء الطريق. وتمرّ الأيام ويُخبرها الطبيب أن الحالة تسوء وأن الأمر جلل، ونعلم من الطبيب سرًا وقتها أنه انتقل للعمود الفقري والرئتين وأعلن الحرب الضروس على جسدها، وأن الأمر لم يعد يخضع تحت سيطرة البشر الآن.

كنت أرى تلك الخلايا السرطانية تملأ جسدها ولم أستطع البوح بها، كتمت تلك الدموع حتى خرجت من عندها ولم أشعر بنفسي وهي تتساقط على خدّي في عرض الطريق.

بكيت لم أدرِ لِمَ الدموع تتساقط وحدها الآن، ولكن كما لو كان قلبي يحترّ على ذلك العدو. أذكر أنّي زُرتها هذا اليوم، رُغم ما يُشغلني من الدُنيا ولكنّي ضربت بعرض الحائط كل شيء وذهبت إليها، وجدتها في حالةٍ أعرفها كطالبة أدرس الطب جيدًا، أعرف أنها تتألم ولكنها تُخفيه، أعلم أنها تتوجع ولكنها صابرة ترجو الحياة. أخبرتني بكل قلبٍ راضٍ حينما سألتها عن حالها "أحسن من غيرنا يا مريم ". يومها آتتني بالأشعات والتحاليل تُقسم لي أن أخبرها الحقيقة وكأنها تعلم أن أعيننا تُخفي عنها شيئًا، وكأن جسدها الهالك أخبرها. ولكنّي أمسكت بها وسألت الله في نفسي أن يغفر لي تلك الكذبة وقتها وابتسمت في وجهها الشاحب وأخبرتها أنها بخير، وأن جميع النتائج جيدةً، (سامحيني).

كنت أرى تلك الخلايا السرطانية تملأ جسدها ولم أستطع البوح بها، كتمت تلك الدموع حتى خرجت من عندها ولم أشعر بنفسي وهي تتساقط على خدّي في عرض الطريق. وتمرّ الأيام فإذا بهاتفي يرنّ فأتلاهف الرد فإذا بها تُخبرني أن نتائج التحاليل الجديدة بحوزتها تُخبرني في صمتٍ أن اجمعي قوتك يا مريم مرةً أُخرى. وها هي بكلماتها المُكسرة تملي على مسمعي النتائج ولكن، أخبرتها أن الأمور تتحسن كالعادة، وأنها تنمّ عن خير بالتأكيد. ولكن كانت من أسوء النتائج التي يمكن أن تسمعها يومًا، ولكنّها أغلقت معي الخط بضحكة سعادةٍ غريبة، وحمدٍ يتوالى على لسانها الثقيل .

وعندما رأتني ضَحِكت مستبشرة، فأمسكت بيديها وأخبرتها :
وعندما رأتني ضَحِكت مستبشرة، فأمسكت بيديها وأخبرتها :"سيكون كل شيء على ما يُرام"، فنظرت إلي مبتسمةً وكأنها تقول لي في قرارة نفسها:(يكفيكِ كذبًا).

لأنام وأستيقظ على خبر غيبوبتها !كانت آخر كلماتها أنِ "يا مريم ابتسمِ، احتفظِ ببسمتك تعلو وجهك في وجه مرضاك، ستصبحين طبيبةً رائعة"! لم أتمالك دموعي، سقطت على خدّي، تُنبأ أن لا سعادة بعد هذا. يتلاهفون لإنقاذها ويسعون إلى أن تعود إلى طبيعتها، ولكن حقيقتها المؤلمة التي يجهلون بها وأعلمها كانت تُلازمني، وتزورني كل ليلة في كوابيسي، حتى زهدت النوم وأصبحت أخاف السرير. صليت كثيرًا ودعوت الله، أن لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به، حتى جاءت الإجابة مسرعةً فاستفاقت من غيبوبتها وزرتُها، وعندما رأتني ضَحِكت مستبشرة، فأمسكت بيديها وأخبرتها :"سيكون كل شيء على ما يُرام"، فنظرت إلي مبتسمةً وكأنها تقول لي في قرارة نفسها:(يكفيكِ كذبًا).

قبلتُها آخر مرةٍ ومن ثم هرعت إلى الطبيب لأسأله رُغم أنّي أعرف الإجابة جيدًا، فأخبرته أنّ لا حاجة لَه بإخفاء الحقيقة وأنّي أعي جيدًا ما يقول وأخبرته عن حقيقة دراستي الطب وجامعتي، فرَحبّ بّي وأخبرني وكأنه كان ينتظر من أهل المريض من يفهمه ويتفهمه، فباح بكل ما عنده، حتى أصبحت غير قادرة على المزيد، يتكلم وأنا أُحبس دموعي وتسألت من أين جِئتُ بهذا الثبات؟ فأخبرني أن الموت يحوم بظلاله، وأن مشيئة الله هي الفاصلة. يومٌ بعد يوم والألم يزداد، وأصوات الصُراخ تعلو، وجحيم الحياة يلتهمنا ونحن نرى إنسانًا قبل أي قرابةٍ، يَخطفه الموت من بيننا ولا نستطيع إنقاذه. كانت تلك أسوء اللحظات التي مرّت عليّ، لم أدرِ ماذا يفعل أمثالنا ممن يدرسون الطِب؟

ما فائدتنا ونحن نقفُ عاجزين الآن؟ حتى آتى القدر، وحانت نهاية القصة، وجاء الموت المُنتظر، كُنتُ أول من يكتشف وفاتها، في هذا اليوم كنتُ بجانبها أرفع دعواتي إلى السماء وأقرأ ما تيسر من القُرآن ويدي بيديها، أُحسّ نبضها، كنتُ أشعر ببرودة أطرافها ولكنّي كذبت يدي. ساعةً تَجُرُّ ساعة وكأنهم سبعين سنة، تركتها قليلًا، توضأت لصلاة الفجر وبكيت بُكاء الخائف، خائفٌة من كُل شيء، كل دقيقةٍ وكلُ ثانية. عُدت بعد أن مسحتُ الدموع عن عيني، فلعلها إذا فاقت وفتحت عينيها تحزن لذلك! ولكنّي عُدت، وأمسكت بيديها، فلم أستطع احتضانها كذي قبل، ألقيت بها بعيدًا عنّي، شعرت ببرودة لا تنم عن الحياة ثم ُ برجفةٍ تضرب جسدي بأكمله، فانتفضتُ لها، ونظرت إليها، فإذا بالخوف يتحقق! ارتقت روحها إلى بارئها، بعد صراع سنين، ارتقت أنقى وأطهر روحٍ، بكيت بُكاء الصدمة لا الفقيد، لا أستطيع تصديق ذلك إلى الآن.

كُنت وما زلت كما المضروب على رأسه، لا أُصدقُ، أظن في قرارة نفسي أنها ستُهاتفني، سيظهر اسمها على شاشة هاتفي، أو سَترسل لي تلك الآيات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو ستبتسم ليّ في كل مرةٍ أزورها وتُخبرني كعادتها: "بنت أُختي دكتورة" أشتاق إليها بقدر السماء. أشتاق لضحكتها، وكلماتها، أودّ لو أخبرها أن العالم قبيحٌ بدونك. اضطرتني الظروف لأذهب إلى المسجد الذي أقيم فيه عزائها فوجدت قلبي يبكي، ذرفت الدمع بلا سابق إنذار، لم أستطع تمالك نفسي. ما لهذا المرض؟ متى سينتهي هذا الصراع ونقضي على مثله من الأعداء؟ رُغمًا عنّي سأضع نُقطة النهاية، لأُجفف دموعي. ادعوا لها بالرحمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.