شعار قسم مدونات

مالك بن نبي.. سيرة ذاتية غير موضوعية!

blogs مالك بن نبي

يقول مالك بن نبي: "وفي ظهيرة يوم الجمعة أخذت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلاً ينادي: "أعطوني من مال الله"، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت بإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه". إن المتأمل لهذه الجمل، يخال نفسه أمام حكاية خرافية أو ملحمة أسطورية، لا تقبل التصديق، لأن أي طفل يستحيل أن يفكر في شخص غير نفسه، لكننا أمام حكاية حقيقة تروي سيرة مفكرٍ ومجاهدٍ وفيلسوفٍ وأديبٍ جزائري اكتوى بجمرة الفكر وبلهيب العلم، غيرته الإسلامية وشهامته العربية الأصيلة، دفعته إلى التعمق والتفكر في أسئلة علمية وجودية صنعت منه الفيلسوف والمفكر والنابغة. لا يمكن لدارس فكر مالك بن نبي، أن يغض الطرف عن مولده وحياته وشخصيته التي كان لها الدور الكبير في بناء معالم فكره، لذلك يجب أن نمر على حياته مرور الكرام لا مرور البخلاء لأن الكرام إذا مروا استوقفوا، وبذلك نقف وقفة متأنية على نشأته وتكوينه.

مولده ونشأته وتكوينه:

ولد المفكر الإسلامي الجزائري (مالك بن عمر بن نبي) بمدينة قسنطينة عام 1905 م، في عائلة فقيرة، وقد تبناه عمه ليتربى عنده، وسرعان ما توفي عمه فأعادته زوج عمه إلى أبويه، اللذين ارتحلا به إلى مدينة تبسة سنة 1912م عند أخوال أمه، الذين يعملون بالتجارة وببعض الحرف العادية. وظل والده لفترة دون عمل، وفيها عرف مالك طعم الحرمان، الذي سرده في مذكراته شاهد القرن حين يقول: ((… ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائماً فارغاً…)).

وكان لحكايات جدته وقع كبير على شخصيته، بسردها الدائم لأهوال فظائع سقوط مدينة قسنطينة بيد الفرنسيين سنة 1837م، وكيف هرّب أهل قسنطينة زوجاتهم وبناتهم بالحبال من أعالي مرتفع سيدي مسيد، كي لا يتعرضن لوحشية جنود الاحتلال. تلقى تعليمه الأولي في كتاب بلدة تبسة طيلة أربع سنوات، حفظ خلالها عدة أجزاء من القرآن الكريم، والتحق بالمدرسة الفرنسية أثناءها، لينقطع بعدها عن الكتاب، مع احتفاظه بالتردد على المسجد، وخاصة في أيام العطل والجمعة وأيام الصيف، حيث كان أهل تبسة يتوزعون إلى فئتين، فئة تذهب لتأدية صلاة المغرب والعشاء في مسجد سيدي ابن سعيد والجامع العتيق عند الشيخ سليمان بن طيار البيضاوي، وفئة تقصد المقاهي والحكايات.

ولما أتم المرحلة الابتدائية ونجح في نيل شهادة التعليم الابتدائية، التي كان لها وقع وتأثير كبير بَيّن على الأهالي، الذين لا يستطيعون إرسال أبنائهم لمزاولة دراستهم الثانوية، انتقل إلى قسنطينة ليواصل دراسته في المرحلة التكميلية للحصول على رتبة كاتب عدل، وكانت هذه المرحلة من أخصب مراحل حياته، حيث التقى فيها بالشخص عبد الحميد بن باديس، وأعلام النهضة الجزائرية العربية الإسلامية الحديثة أمثال الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ محمد بن العابد، اللذين اكتسب منهما العلم الشرعي، ونمَّى ثقافته الإسلامية، كما اكتسب من الشيخ عبد الحميد بن باديس الحماسة والشجاعة والإقدام.

كان مالك كثير الاطلاع والقراءة في الأدب العربي القديم، وفي كثير من كتب التفسير، إضافةً إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي، كل هذا صقل ذهنه المتوقد وفكره الناقد

وفي هذه الفترة قرأ الكثير من الكتب، ومن أهمها كتابان أثرا في تكوينه ونفسيته، هما كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، وكتاب (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، وارتبط بصداقة متميزة مع المرحوم (حمودة بن ساعي)، كما تعرف على بعض تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس. كما اطلع على جريدة (الإقدام) التي أكسبته قوة عظيمة فقال عنها: "… فالإقدام وضعت في فكري الحدود السياسية الدقيقة، فكانت تكشف عمليات استغلال الفلاح الجزائري، وقد بلغت درجة لا توصف في هذه الفترة".

وطيلة هاته السنوات كان يتردد على مدينة تبسة التي أثرت فيه بيئتها تأثيراً منقطع النظير وسم شخصيته وجعلته متمسكاً ومواكباً لمعانات الشعب الجزائري، وبعد نهاية السنة الرابعة من إتمام المرحلة الثانوية ما بين 1924- 1925م، سافر مع صديقه (قاواو) إلى فرنسا بحثاً عن العمل، فذهبا إلى مرسيليا وليون وباريس، ولكنهما أخفقا في إيجاد العمل المناسب فعادا أدراجهما. ثم عاد إلى تبسة، فعمل كمساعد لباش عدل بالمحكمة، وشاهد أثناء عمله ما شاهده من المظالم الاستعمارية، ثم عين كاتبا في المحكمة بـ(آفلو) بالغرب الجزائري، فقال عنها: "… كانت آفلو بالنسبة لي مدرسة تعلمت فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري الذي لا يزال بكراً، وكانت هذه فضائله بالتأكيد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يفسدها الاستعمار".

وكان مالك كثير الاطلاع والقراءة في الأدب العربي القديم، وفي كثير من كتب التفسير، إضافةً إلى اطلاعه على أدب المهجر والأدب الفرنسي، كل هذا صقل ذهنه المتوقد وفكره الناقد، فاتسع أفقه وحسه الأدبي، وأصبحت له نظرة منهجية في كل ما يدور حوله، واستطاع مالك بن نبي أن يرصد حركة الاستعمار وقسوته التي أحدثت تغييرات خطيرة في بنية المجتمع الجزائري، كل ذلك كان سبباً -أيضاً- في توجيه مسار فكره إلى البحث عن أسباب ضعف وتخلف العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى محاولة البحث عن ايجاد الحلول العلمية والعملية للخلاص من هذا التقهقر والضعف.

محاولة للختم:

ونخبة القول، لعلنا بهذه الإشارات نكون قد أعدنا النقاش والتدارس لفكر المجاهد والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي حمل هموم وتيه الحضارة الإنسانية عموماً كما حمل هموم التخلف الحضاري لأمته الإسلامية، فكان يشخص الأمراض، ثم يقدم أسبابها وعللها، دارساً تفرعاتها ومظاهرها وأوجهها المختلفة في العوالم التي يعيشها في العالم الإسلامي، في الأفكار والأشخاص والأشياء، وأختم هذه الدراسة بمقولة الأستاذ محمد المبارك في تقديمه لـ "وجهة العالم الإسلامي": "إن مالكاً يبدو في كتابه هذا وفي مجموع آثاره لا مفكراً كبيراً وصاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعياً مؤمناً، يجمع بين نظرة الفيلسوف والمفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإن آثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولاً وفي بلاد الإسلام ثانياً أثرها المنتج وقوتها الدافعة، وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع كما جمع، بين سعة الإطار والرفعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث، وقوة الإحساس والشعور. أنا لا أقول إنه (مالك بن نبي)، ولكن أقول إنه ينهل من نفحات النبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.