شعار قسم مدونات

عن شتاء الموت

blogs الأردن

كم كانت أرواحنا مشتاقةً للغيث، كنّا بحاجة ماسة للمطر كي يمحوا عن الأرض ملامح الصيف التي أصبحت باهتة، نحن كنّا مشتاقين للغيث ليروي أرواحنا لا أكثر. كم سعدنا به وكم كنّا فريحين حين بدأت السماء سُقياها، أصبح كلام العطش والخير والحمد هو كل الحديث. نحن كنّا في غاية الشوق لتلك السنفونية التي تعزفها السماء، كنَا في شدة الشوق لرقص الشجر، ولكن سعادتنا بالشتاء لم تكتمل أو لعلها لم تبدأ هذا العام.

بينما كنّا نحن مُلتَهيّن بحديثنا ذاك، هم كانوا حول ذلك الوادي في أجواء رحلة مدرسية، كانت تغمرهم فرحة اللعب حول الماء حتى المطر لم يأتي ليفسد متعتهم، جاء بالجوار البعيد تاركاً إياهم ليكملوا رحلة التحدي تلك. تغمر الضحكة أجوائهم، فمنهم من كان يحاول تسلق صخرة ما، وآخر كان يسابق زميله في السباحة. أمّا تلك الفتاة فكانت تضع قدميها في الماء مدهوشةً بروعة اللحظة، وصاحبة الشعر الأشقر تقف منهمكةً في تبادل أطراف الحديث مع صديقتها، وآخرين غمرهم التعب لوهلةٍ فقرروا أن يوقفوا اللعب ويقاسموا بعضهم الطعام.. أثناء تلك السعادة لا أحد منهم كان ينتظر أي شيء، ولا أي ضيف ليزورهم كانوا راضين بما لديهم وكانوا مكتفين بأحلامهم البسيطة تلك.

هي ثوانٍ معدودة كانت فاصلةً بين تلك اللوحة والإعصار القادم باتجاهها، ما كان بالإمكان الهروب منه، كانت مباغتته أقوى من إدراك عقولنا البشرية. في منتصف سعادتهم ما كان من قوة السيول إلا أن تأخذهم معها وتجرف أحلامهم في طريقها، نحن لا نعرف كم صمدوا، كم حاربوا لأن يبقوا ثابتين. نحن لا نعرف ما عايشوا من خوف وألم إلا ما شاهدناه خلف الشاشات والذي لا يساوي شيئاً من الحقيقة ولكنه كان كافياً لينال منّا ويجعلنا نروي بالدمع الوجنتين.
 

بعد الآن سيبقى الشتاء حسرةً في قلوب الأردنيين، فلماذا أيها الشتاء؟ لماذا خطفت الصديق أمام عيني صديقه، وتركت أماً تودع طفلاً منحته من عمرها عمرًا.

خلف الشاشات كان الشعب الأردني كعادته يتجسد بجسده الواحد يتقاسم وجع المصاب، منتصباً يراقب الأمن والدفاع المدني أثناء عمليات البحث، كانت لحظاتٍ صعبة، لا يُفهم فيها ما يحدث، والأعداد بازدياد والمفقودين يتم البحث عنهم، وسؤال هل هم بخير؟ يجول داخل نفوسنا ما بين الحيرة والتمني، فكم كانت تغمرنا السعادة حين نسمع أنه تم العثور على أحدهم بخير، وتقهرنا الغصّة كلما زاد عدد الراحلين. أما المفقودين هم الذين كانوا دعاءنا إلى الله، في جسدنا الواحد ذلك مع كل مشهد للموت كان خنجر يُغرس في قلوبنا ويبقى نزفاً لا يتوقف.

لعل وقع الخبر لم يكن قاسياً بقدر صعوبة المشهد، فذلك الأب المفطور على ابنه كان أقسى من أي صورةٍ أخرى، والصديق الذي صرخ من ألم فقد صديقه سيحتاج أعواماً لنسيان المشهد إن استطاع. أمّا تجربة الموت نفسها التي قد تحرم هؤلاء الأطفال النوم لأيام ستكون تحدياً حقيقياً يجيب على أسرهم الحرص عليه وتفهمه. حيث بات عليهم أن يكونوا أكثر وعياً بالتعامل معهم فقد كبروا أعواماً بعد تلك اللحظة.

في شتاء الموت هذا حيث عشرون شهيداً كفنّوا بالأعلام، أخذت السيول باقي أعمارهم في طريقها، ما كان منها إلا أن تسرقهم دون وداع، دون إشعار مسبق. فتحت بيوت عزاءٍ لشهداء أفجعوا القلوب على رحيلهم، وفتحت جروحاً ما أظنها ستخمد، فقد بات هذا الحدث الجرح النازف في صدر الوطن وفي صميم روح شعبه. حيث الأعلام تنكست حداداً، والرؤوس شهقت للسماء بالدعاء "اللهم إنهم كانوا أفلاذ قلوبنا فارحمهم واغفر لهم واجعلهم شفعاء لأهلهم عندك يا الله، اللهم إنا نسألك الصبر لذويهم والقوة لقلوب أمهاتهم ونحمدك على كل حال".

بعد الآن سيبقى الشتاء حسرةً في قلوب الأردنيين، فلماذا أيها الشتاء؟ لماذا خطفت الصديق أمام عيني صديقه، وتركت أماً تودع طفلاً منحته من عمرها عمرًا. لماذا جعلت الموت قاسياً أكثر من عادته، أيها الشتاء لما لم تأتي طيباً، بسيطاً كم عهدناك، وحين تسخط علينا كنت تأتينا رعداً. لمَ جعلت فرحنا بك عزاء وأذقتنا بعد غيثك بدل الندى موتًا. أيها الشتاء ترّأف بنا ولا تفجعنا مرة أخرى إن حللت على ديارنا، ولا تجعلنا نهرب منك ونخافك، لا تجعلنا نخافك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.