شعار قسم مدونات

القهر أصل كلّ شرّ!

blogs القهر

وصفت مجتمعاتنا العربية كثيرًا بأنها مجتمعات متخلفة، فهل نحن متخلفون لتدني مستوى الحياة المادية؟ أم أننا متخلفون لتدني مستوى العلاقة الإنسانية؟ في كتابه القيّم «التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يقدم الدكتور «مصطفى حجازي» رؤية مغايرة لمفهوم التخلّف؛ فيرى أن المجتمعات المتخلفة هي تلك المحكومة بعلاقات القهر والتسلط وما ينتج عنها من تشيء للإنسان المقهور.

ومضة.. التخلف لا يعني تدنى الراتب أو نقص الخدمات ولكن يعني القهر

مع بدء حركات الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي انتشرت بغزارة الكتابات المعنيّة بقضية التخلف نظرًا لأن جلّ الدول التي حصلت على استقلالها كانت ضمن ما يطلق عليه دول العالم الثالث. على وفرة هذه الكتابات فإنها اقتصرت في تعريفاتها على جوانب التخلف الاقتصادية والصناعية وما يتعلق بالسكان مثل الصحة والتعليم والتغذية والإعمار وغيرها. وقد ضللت هذه التعريفات علماء الاجتماع والقادة السياسيين طويلًا عن المعنى الحقيقي فخططوا لعلاج التخلف باستيراد أفكار من مجتمعات متحضرة، وأنفقوا ببذخ على مشروعات تنموية فشلت جميعها.

لم تتطرق تعريفات التخلف –على كثرتها – إلى الإنسان المكوّن الرئيس في هذه المجتمعات، والمحكوم بقواعد نفسية وعقلية وعلاقات متباينة قد تجعل منه قوة مقاومة لعملية التنمية والتغيير. المتخلف ليس ذاك الإنسان المتدني الخدمات أو الدخل وإنما هو الإنسان المقهور من الطبيعة والممسكين بزمام السلطة في مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ لهم مما يؤدي إلى ظهور علاقة القهر والتسلط من ناحية ورِدة الفعل عليها رضوخًا أو تمردًا من ناحية أخرى.

يعيش الإنسان المقهور في عالم من العنف المفروض سواء من الطبيعة التي تسيطر عليه بكوارثها المتتالية، أو قهر الآخر الذي قد يكون حاكمًا، أو شريكًا متسلطًا

إن القهر المسيطر على حياة الإنسان في هذه المجتمعات يغذّي لديه العديد من المشاعر والأفكار والتصرفات؛ فينعدم عنده الشعور بالأمان ويسيطر عليه إحساس العجز عن التحكم في مصيره مما يلجئه إلى حيل نفسية وعقلية لضبط توازن حياته، يقول الكاتب «والكثير من معتقدات الإنسان المتخلّف وانتماءاته وممارساته تبدو في النهاية كمحاولات داعية للسيطرة على وضعيته المأزقية وإيجاد حلول معينة لها»(1). ومن هنا فإنّه لكي تنجح خطط التنمية وأفكار التغيير ومبادرات الإصلاح في مثل هذه المجتمعات لا بد من دراسة سيكولوجية الإنسان المقهور والملامح النفسية لشخصيته جنبًا إلى جنب مع بقية الدراسات الأخرى.

ومضة.. نفسية الإنسان المتخلف مفتاحها القهر

يعيش الإنسان المقهور في عالم من العنف المفروض سواء من الطبيعة التي تسيطر عليه بكوارثها المتتالية كالجفاف والفيضانات والحرائق والأوبئة والحروب والآفات الزراعية، أو قهر الآخر الذي قد يكون حاكمًا، أو شريكًا متسلطًا، أو رجل شرطة، أو موظفًا عامًا، أو محتلًا يتحكم في مصيره. وقد يجتمع عليه هؤلاء جميعًا؛ فيجد نفسه عاجزًا لا يملك سوى الرضوخ والتبعية فيقع في الدونية واحتقار الذات وكأنّه قدر محتوم.

ومن هنا يمكن تفسير بعض التصرفات الشائعة في المجتمعات المتخلفة والتي تدور كلها حول محاولة اتقاء شرّ القُوى القاهرة المتسلطة بالتعلق بالغيبيات، وانتشار ثقافة الرضا بالمقدّر والمكتوب، وتفشي النفاق والتزلف. إن العالم الذي يعيش فيه الإنسان المقهور عالم بلا رحمة، فالعقاب الصارم حاضر إن فكر في التمرد أو المواجهة، إنّه عقاب يرسخ فيه المستبد لواقع تفوقه واستحقاقه السيادة على هذا الكائن الذي لم يعد إنسانًا بل مجرد متاع، يقول الكاتب «إن عالم التخلف هو عالم التسلط واللاديمقراطية، يختل فيه التوازن بين السيّد والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حدًا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته»(2).

إذن في كل مرة يضطر فيها الإنسان المقهور المنهزم نفسيًّا إلى مواجهة السيّد يفقد شيئًا من إنسانيته، وفي كل مرة تنعدم علاقة التكافؤ بينه وبين الآخر يتحول من «إنسان» إلى «شيء» في نظر نفسه وفي نظر المتسلط. وبقدر ما تتضخم (الأنا) عند السيّد ينهار الرباط الإنساني بينه وبين المسود الذي يهبط إلى أسفل سلم الإنسانية ساحبًا معه هذه النموذج على جميع علاقاته ومواقفه من الحياة والآخرين.

لذلك لا عجب أن نجد نموذج «السيد» و«المسود» أو فلنقل «القاهر» و«المقهور» مكررًا في علاقات إنسانية حميمة كالعلاقة بين الرجل والمرأة، والمعلم والتلميذ، والموظف والمواطن. وهكذا تصطبغ كلّ سلطة طبيعية أو تسلسلية بصبغة القهر حتى تصلّ إلى علاقة الإنسان بالحيوان والجمادات بل حتى الحبّ يعاش في هذه المجتمعات المتخلفة تحت شعار التسلط والرضوخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
1- التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ص11.
2- السابق ص40.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.