شعار قسم مدونات

ودائع الله لا تضيع أبدًا!

blogs دعاء

لكلّ قلبٍ ممتلكاته الثّمينة التي جعلته يضجّ بالمشاعر بترف، تلك الممتلكات التي لا يَقوَى على تخيّل ابتعادها قليلًا أو فقدها، ويسعى دومًا إلى الحفاظ عليها بشتّى الوسائل والسّبل، لكنّ القلب مهما حاول أن يحمي ممتلكاته الغالية هذه، لن يستطيع أنْ يطوّقها بالطريقة الكاملة كما يتمنّى، وهذا قد يسبّب قلقًا كبيرًا وشعورًا ضخمًا موجعًا بالعجز وساعات لا متناهية من التّفكير المرهق.

لا بدّ من وجود قوٌة عظيمة تحمل هذا الثقل عن قلوبنا، لا بدّ من وجود طريقة لحماية كلّ ما ومن نحبّ، أن نبتعد آلاف الأميال وطيفهم ماثلٌ وشاخصٌ أمام أعيننا واليقين يملؤ قلوبنا أنّهم بخير وسلام. تأمّلت قبل أيّام قصة ابن زريق البغدادي عندما ترك زوجته في بغداد وراح ميممًا نحو الأندلس علّه يجلب لهما بعض المال فينعمان بحياة رغيدة كما تمنّى دومًا. تشبّثت به قبل سفره محاولةً منعه من الابتعاد عن عينيها، فهو نبض قلبها وإن اختفى النبض مات القلب.

وقد قال في مشهد الوداع في قصيدته المشهورة "لا تعذليه فإنّ العذل يولعه":

وَكَم تَشبَّثَ بي يَـومَ الـرَحيـلِ ضُـحَىً .. وَأَدمُعِـي مُستَهِـلّاتٍ وَأَدمُـعُـــهُ

موقف الوداع لم يكن سهلًا عليه أيضًا فقد قال:

وَدَّعتُـهُ وَبـوُدّي لَو يُـوَدِّعُـنِـي .. صَـفـوَ الحَيـاةِ وَأَنّي لا أَودعُــهُ

أيّ أنّه تمنّى ضنك الحياة وتعاستها برفقة من يحبّ على أن يفارقها! ما أضعف القلب وما أرّقه! اللافت في قصة هذين الحزينين أنّ من أشهر أبيات هذه القصيدة، بل ربّما الأشهر على الإطلاق:

اِستَـودِعُ اللَهَ فِي بَغـدادَ لِي قَـمَــراً .. بِالكَـرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَـطلَعُـهُ 

استودعوا الله كلّ ما تحبّون، اجعلوا كلّ ثمين وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله عزّ وجل، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم

علم قلبه الضّعيف عندما تأكدّ الوداع ووقع ، أنّه لن يستطيع حماية ساكنه بعد الآن، فقوّة المشاعر مهما بلغت لن تحمي مع الأسف، فآثر أن يُوْدِعَهُ عند خالقه عزّ وجلّ، فهو الأقدرُ على حمايته وحفظه، وربّما هذا اليقين قد يكون ممّا خفّف عنه ثقل البعد وطول الانتظار ومنحه بعضًا من الصّبر. تميل النفس دومًا للجوء لقوة أعظم وأكبر من قوّتها كي تشعر بالأمان.

أتخيّل حوار نفسه وهو في درب سفره ناظرًا إلى السماء: "يا ربّ يا خالقي وخالقها وحدك تعلم ما تعنيه لي ولقلبي، احفظها بحفظك وارعاها برعايتك، احمها لي يا من لا تضيع عندك الودائع "، باح بضعفه إلى الله عزّ وجلّ وكلّه يقين أنٌه سلّم أمرها للأرحام، فسكن واطمأنّ. كلّ الأشياء التي تخرج من دائرة حمايتنا نودعها عند خالقنا، نسلّمها للقوة العظمى في هذا الكون ونُكافؤ بحمايتها وبشعور عظيم من الطمأنينة والراحة لن يمنحنا إياه أيّ شيءٍ آخر.

ورد عن عبد الله الخطمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أنْ يستودع الجيش قال: "أستودع الله دينكم وخواتيم أعمالكم". درس عظيم من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج لحياتنا فهذه ثقة عظيمة في الخالق ويقين هائل بأن الله تعالى إذا اسْتُودع شيئًا حفظه وحماه وسلّمه من كلّ سوء، ويسّر له الخير ورزق مودعه الطمأنينة وراحة البال وانشراح الصّدر. وفي قصة سيدنا يعقوب عليه السلام عندما أرسل ابنه-التي تقول بعض الروايات أن اسمه (بنيامين)- مع إخوته قائلًا "فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين" خير دليل على أنّ ودائع الله دومًا لا تضيع، وخير دليل أنّ اللجوء إلى الله عزّ وجلّ يريح النّفس ويطمئنها حتى في أشدّ المواقف قسوة وصعوبة.

استودعوا الله كلّ ما تحبّون، اجعلوا كلّ ثمين وغالٍ في قلوبكم في ودائع الله عزّ وجل، استودعوه عائلاتكم وأحبابكم وأحلامكم وأسراركم وأوطانكم، اسألوا الله أن يحفظ لكم دومًا، فهو خير من حفظ، وأجلّ من اؤتمن، وأعظم من استجير به. استودعوا الله سلامة قلوبكم، ويقينكم وإيمانكم، ودينكم فمن حفظ الله تعالى له دينه وسلامة قلبه حتى يلقاه سلم وأمن. سلّموا الله كلّ ما لا تقوى أرواحكم على فراقه بيقين، صغيرًا كان أم كبيرًا دعوه للخالق وأبشروا بالحفظ، اجعلوا كلّ شيء تحبونه وسكن قلبكم في ودائع الله، فودائع الله لن تضيع أبدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.