شعار قسم مدونات

أحلاها مر.. ما هي خيارات غزة الثلاثة بالأيام القادمة؟

blogs غزة

لأول مرة كافة الأطراف الصديقة أو مُجاهرة العداء، تتفق على أن غزة وأهلها يتجهون نحو الأسوأ بشكل مُتسارع، بل ومن فوقِ قمةٍ شديدة الانحدار. الحصار الصهيوني المشدد المفروض على قطاع غزة وتقاطعه مع حلقات العقوبات الجائرة التي فرضتها السلطة الفلسطينية على مليوني إنسان يعيشون في القطاع الساحلي الذي ضاق بأهله، رغم ضيقه الجغرافي أصلاً، كل ذلك أخذ يسحبُ سحباً الفلسطيني من بطنه وأطرافه وكله صوب حفرةٍ سحيقةٍ من الفقر وغياب أي بصيص لضوءٍ في نهاية النفق. أمام هذا الواقع الذي والمشهد القاتم، يسأل أهل غزة: "متى نصر الله.. متى سنعيشُ مثل البشر في أي بقعةٍ على الكرة الأرضية.. متى سنعيشُ أياماً سعيدة وهادئة وهانئة؟"..

لا يمكن لأحد كائن من كان امتلاك إجابة محددة عن هذه الأسئلة، والمئات منها، فالواضح بأن غزة تتحرك خارج المعقول والمنطق أو التوقعات، ولا يمكن لأي شخصٍ أن يُخبرك ماذا يحمل اليوم التالي بناء على قراءة لمشهد الماضي وربطه بالحاضر لصياغةِ المستقبل. دوماً ما كانت الأحداث والتحركات التي تجري على رمال غزة، تتحرك وفي اتجاهات غالباً ما تُخالِف التوقعات.

رغم ذلك، وفي هذه الظروف بالغة القسوة يمكن حصر خيارات غزة في ثلاثة مسائل أحلاهما مُر، فكل خيارٍ منهما فيه من المخاطر والدماء والتضحيات الشيء الكثير، لكن هكذا هي الأمور قد اختصرها الحصار والعقوبات والخذلان في المسائل الثلاثة التالية، كمحاولاتٍ- بكل ما ينتج عنها من دماء ومخاض صعب- للخروج من الحفرةِ السحيقة التي وقع فيها مليوني مواطن:

1- تواصل مسيرات العودة وكسر الحصار على امتداد الأسلاك الصهيونية في محيط قطاع غزة.
2- اندلاع مواجهة عسكرية بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني.
3- تسليم قطاع غزة زمام قيادته وحكمه بالكامل فوق الأرض وتحتها لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

ثمةَ فقرٍ وجوعٍ وانعدامٍ للأفق يعيشه أهل غزة أصبح أمراً بسيطاً أمام الموت والاستشهاد برصاص الاحتلال الظالم والقاهرَ لإرادة الناس

وبقراءة موضوعية للمخارج الثلاثة التي وجدت غزة تفكيرها محصوراً فيها دون غيرها- رغم ما فيها من تنازلاتٍ وأثمانٍ كبيرة-، فلا بُد من دراسة كل خيار ما له وما عليه، على حدة. فيما يتعلق بالمسيرات، فقد تمكن الشارع الفلسطيني من إرباك حسابات قيادة الاحتلال الصهيوني، فهي وجدت ما كانت تخشاه ذات يومٍ، حقيقةً لا مفر منها، فقد باتت زحوف الجماهير الفلسطينية تتجه صوب الأسلاك العسكرية التي نصبها المحتل شرق وشمال قطاع غزة، للمطالبةِ بحقه مهما كلف الأمرُ من ثمن.

هذه المسيرات الشعبية، صحيح بأن قوات الاحتلال وجدت نفسها شبه مُقيدة للتعامل معها عسكرياً، وإن كانت بين الفينة والأخرى تستخدم أدواتها المميتة بحق متظاهرين سلميين شعبيين، فتقنصُ منهم وتُصيبهم في مناطق إما مميتة أو تشل الحركة لسنواتٍ من العُمر، لكنها في أسوأ الأحوال لا تلجأ لأكثر من ذلك، كونها تُدرك عدم مقدرتها على تبرير استخدام صواريخ طائرات وقذائف دبابات بحق متظاهرين بلا سلاح؟ هل ستفتح جبهةً دبلوماسية "ستكون فاشلة بكل تأكيد" تُقنع من خلالها العالم بأن أفعالها وقذائفها استهدفت من خلالها "آلاف من الناس هددوا وجودها".

 

إن جبهةً بهذا الشكل سيفشل بها الاحتلال أمام تساؤلات العالم، من قبيل: ما الذي يدفع الآلاف للتوجه إلى أسلاك الاحتلال رغم قناعتهم بالقتل أو الإعاقة؟ هل يعيشُ الناس في غزة أوضاعاً طبيعية؟ إن كانوا كذلك فلماذا لا يقضون إجازتهم الأسبوعية على شاطئ البحر مثلاً ويُفضلون الموت نصاً على الحدود؟.. حينها ستأتي الإجابة تصم الآذان: إن ثمةَ فقرٍ وجوعٍ وانعدامٍ للأفق يعيشه أهل غزة أصبح أمراً بسيطاً أمام الموت والاستشهاد برصاص الاحتلال الظالم والقاهرَ لإرادة الناس.

أمام هذه الصورة الدامية، لن تبقى مسيرات العودة وكسر الحصار على نمطٍ واحد- وهذا ما ظهر من تطور أساليبها وامتداد جغرافيتها-، ففي البداية كان من المستحيل الوصول لأسلاك الاحتلال الزائلة، لكن اليوم بات التقاط صور السيلفي والسجود داخل الأراضي التي يستولي عليها المحتل الصهيوني بقوةِ السلاح، مشهد متكرر في كل جمعة، وهو تطور جاء بعد استخدام المتظاهرين لأساليب البلالين الحارقة والطائرات الورقية وقص أسلاك الاحتلال والإطارات المحترقة، وحديثاً الأصوات المزعجة ليلاً على حدود غزة ضمن ما بات يُرعف بـ"الإرباك الليلي للاحتلال".. وغيرها من الوسائل التي يبدو أنها ستتطور وتشتد باشتداد الحصار والعقوبات.

فيما يتعلق بالخيار العسكري، تبدو قيادة المقاومة الفلسطينية مترددة في الوقت الراهن لجعله في المرتبة الأولى، فقد اشتد الحصار عليها، وتقطعت خطوط الإمداد المالية والعسكرية بل والشعبية معها بشكلٍ لم يسبق له مثيل عبر سنوات عمرها الطويلة، وبين الفينة والأخرى تقوم تلك القيادة بإجراء دراسات وتحليل لحجم التضحيات، ومقارنة ما يمكن تقديمه عسكريا أو من خلال مواصلة خيار مسيرات الحدود الشعبية.

يبدو في ميزان المقاومة الفلسطينية أن استشهاد أقل من 200 مواطن فلسطيني على مدار نصف عام من مسيرات العودة ومقارنته بما حققته تلك المسيرات من تلاحم شعبي وتمسك بالثوابت الفلسطينية التي لم يبقَ يتشبث بها سوى أهل غزة، هي أقل كثيراً مما يمكن تقديمه خلال اندلاع مواجهة مع الاحتلال الصهيوني. فمثل هذا العدد سيكون من الطبيعي فقدانه في أقل من يومٍ من مواجهة عسكرية، في ظل تأكيد مختلف الأطراف بأن أي مواجهة قادمة لن تكون كسابقها، هذا بالإضافة إلى أن المواجهة العسكرية سيكون خلالها خسائر مادية فادحة في المباني والمنشآت، وغزة قد لا تتحمل ضريبة ذلك في الوقت الراهن.

المسيرات وشعبيتها ومآلاتها مرتبطة بردود الأفعال والأفعال خلالها، بمعني أكثر دقة، ستتغير نتيجة الأمر ومسار الأحداث في حال أطلقت قوات الاحتلال الصهيوني قذيفة مدفعية صوب المتظاهرين
المسيرات وشعبيتها ومآلاتها مرتبطة بردود الأفعال والأفعال خلالها، بمعني أكثر دقة، ستتغير نتيجة الأمر ومسار الأحداث في حال أطلقت قوات الاحتلال الصهيوني قذيفة مدفعية صوب المتظاهرين
 

الخيار الثالث، يبدو مُستبعداً عن تفكير الشعب والقيادة كذلك في غزة، فرئيس السلطة الفلسطينية يُريد من غزة العودة عقودٍ من الزمن لتتحول إلى نموذج آخر للضفة الغربية من تنسيقٍ أمني "مُقدس" مع المحتل، وانتشار تجارة المخدرات، وابتزاز الناس من قيادة الأجهزة الأمنية، وغيرها من المسلكيات البعيدة عن قيم الشعب الفلسطيني. إن نموذج الضفة الغربية يبدو ماثلاً أمام الجمهور الغزي، فكيف به يقبل تكرار المشهد عنده. الفلسطيني في غزة وصل به الحال على الموت جوعاً ولكن لا يُسلم مفاتيح غزة لسلطة جعلت من نفسها رهينةً في يد الاحتلال، ثم أن هناك قناعة لدى مليوني مواطن بأن السلطة في حال أمسكت بزمام غزة، فسوف تعمل جاهدة على الانتقام من أهلها الذين واصلوا رفع رؤوسهم في وجه المحتل الصهيوني والسلطة الفلسطينية على مدار سنواتٍ طويلة، وسوف تكون نتيجة ذلك معتقلات وقتل وملاحقة لم تمر عبر التاريخ.

لكن وأمام الخيارات الثلاثة سابقة الذكر، وإن كان يتضح بأن الأفضل لأهالي غزة الاستمرار بالخيار الأول وتصعيد وتيرة المسيرات على أسلاك الاحتلال الصهيوني، وهو تصعيدٌ لا يعني مواصلة المسيرات دون أفقٍ لنهايتها أو توقفها كما يروج البعض، فالجرأة التي يمتلكها المتظاهرون السلميون والتي باتت تشتد وتتمدد باستمرار الحصار وازدياد وتيرة الجوع في غزة، من يدرِ كيف ستكون نتيجتها.

إن ما أقصده في هذا الأمر، أن المسيرات وشعبيتها ومآلاتها مرتبطة بردود الأفعال والأفعال خلالها، بمعني أكثر دقة، ستتغير نتيجة الأمر ومسار الأحداث في حال أطلقت قوات الاحتلال الصهيوني قذيفة مدفعية صوب المتظاهرين، وسيحدث كذلك في حال تمكن عدد من المتظاهرين الغاضبين من سحب أحد جنود الاحتلال إلى داخل قطاع غزة، أو تغيير قواعد اشتباكهم من شعبية إلى قيام أحدهم بالتسلل بين المتظاهرين وقتل جندي صهيوني أو أكثر.

ذلك المشهد ليس مُجرد حُلم، أو سباحة في الوهم، فمن يُشاهد أحوال غزة المتدحرجة وتعامل قوات الاحتلال مع المتظاهرين والعكس، يُدرك بأن حدوث أحد السيناريوهات السابقة بات مسألة وقت ليس أكثر، وحينها ربما نجد أنفسنا في مواجهة عسكرية لا ترغب بها غزة لكنها فُرضت عليها، وإن كان الاحتلال الصهيوني كذلك لا يتمناها؛ لأن غزة ستقاتل حينها ولا يوجد لديها شيئاً تخشى خسارته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.