شعار قسم مدونات

صديقك انتحر.. ثم ماذا بعد؟

blogs الانتحار

أصبح من غير الممكن أن ننكر ارتفاع نسبة الانتحار في أوساط الشعوب العربية، فمن منا لا يعرف أشخاصا ماتوا منتحرين وإن اختلفت الأسباب وظلت أغلبها مجهولة، الأمر الذي يثير الكثير من الاستغراب ويطرح تساؤلات لا حد لها، لعل أبرزها يكمن في التساؤل التالي: ما الدوافع التي جعلت هؤلاء الناس ينهون حياتهم بتلك الطريقة؟ وعادة ما تبقى معظم الأسئلة القائمة حول موضوع الانتحار عالقة بلا إجابة.

 

أن يختطف الموت أحد أغلى الأشخاص إليك أمر قد يتقبله عقلك بشكل طبيعي لأنها سنة الحياة الدنيوية، لكن أن يوقِّع ذلك الشخص بنفسه شهادة وفاته فذلك هو الذي يرفض عقلك قبوله، خصوصا إن كان صديقا قريبا منك سبق أن عبر لك عن مشاعره وأفكاره الانتحارية، وهو الذي كان يلمح حتى لغيرك عن خططه المحتملة للانتحار، قبل أن يهز كيانك ويترك غصة في نفسك، ويصدم قلوب محبيه بإقدامه على تلك الفعلة الشنيعة والمؤلمة، وأنت لازلت غير مصدق لذلك، لأنك كنت تعتقد أن ذلك كله كان من باب دعابته ومزاحه الدائم، بل وكنت رفضا ومستبعدا قدرة تلك الفكرة على السيطرة والنيل من قوة النظرة التفاؤلية عند صديقك، والتي كنت تلمسها في مواقفه الإنسانية المفعمة بالأمل واستبشاره الخير على الدوام حتى في أسوء الظروف وأحلكها سوادا.

 

لن يفارقك التفكير في كل ما عشته مع صديقك المنتحر؛ فكلما وقعت في دروب الدنيا الوعرة وسقطت في مسالكها المتعبة إلا وتذكرت يده التي كانت من بين الأيادي الأولى التي كانت تمد إليك لتساعدك على النهوض من جديد أكثر قوة وإسرارا على مواجهة المصاعب والمتاعب الدنيوية. بفعل حدوث هذه الفاجعة أدركت أمورا لم تكن تدركها من قبل، والتي يجهلها الكثيرون منا بالرغم من أنها قد تكون من الحقائق التي يلزم معرفتها، الشيء الذي دعاك لتدوينها ليستفيد بها غيرك:

 

معظم حالات ‫الانتحار تكون تحت تأثير ‫خفي لأشياء لا تظهر للعيان بشكل بارز كالأمراض النفسية والإضرابات الوجدانية و‫الفصام العقلي والاضطراب الذهني

– عملية الانتحار ليست فعلا يمس مرتكبه فحسب، بل هي بمثابة صدمة عميقة تتجاوز صاحب الفعل لتصل إلى أفراد أسرته ومحبيه، مما يعني أن تفاعلهم معها يكون له صدى قوي في نفوسهم لعمق الأثر الذي تتركه تلك المصيبة في المحيط القريب بالفرد المنتحر، أي أن ردة فعلهم تكون مأساوية ولها بالغ الضرر عليهم.

 

– إن الانتحار لا يعترف بأي حدود كيفما كانت، وما يؤكد ذلك وجود الكثير من حالات الانتحار في مجتمعاتنا يكون ضحيتها أشخاص لهم رصيد ثقافي وديني ومادي لا يستهان به، بل ويوجد منهم من بلغوا قمة من قمم النجاح، لكن ذلك كله لم يحول بينهم وبين الوقوع ضحية للانتحار.

 

– معظم حالات ‫الانتحار تكون تحت تأثير ‫خفي لأشياء لا تظهر للعيان بشكل بارز كالأمراض النفسية والإضرابات الوجدانية و‫الفصام العقلي والاضطراب الذهني، وهذا كله لا علاقة له بقلة الإيمان بالله، بل هي حالات يكون فيها الإنسان تحت سيطرة أفكار مرضية مستترة لا يمكنه التحكم فيها والتخلص منها بسهولة.

 

– المنتحر قبل أن يقوم بالفعل الذي يسلب منه حياته يزال الاستبصار عن فكره ويفتقد للإدراك بأنه في حالة غير طبيعة، مما يعني أنه في تلك اللحظة يكون مغيب العقل، فالإقدام على الانتحار يحدث بطريقة لا شعورية وغير واعية؛ سواء أكان تحت مفعول أشياء تم تناولها أو لتعرضه لموقف صادم جدا جعله يصاب بشلل في تفكيره.

 

– كل إنسان سوي عارف بدينه يدري جيدا العواقب الدينية للانتحار، لكن هذا لا يمنح الحق لأي أحد بأن يحكم على الآخر بالكفر لأنه مات منتحرا؛ فقد يكون المنتحر مصابا بمرض نفسي حاد يجعله يدخل في صنف الذين لا إثم عليهم وإن كان صاحب كبيرة من كبائر الذنوب، لأن القلم مرفوع عمن ليس له القدرة على ضبط أفعاله وتصرفاته نتيجة لغياب الإدراك وفقدان الوعي، مما يعني أن المقدم على الانتحار إذا كان في حالته الطبيعية ورغم ذلك لا يستطيع أن يعقل ترفع عنه عواقب ما أقدم عليه، فإذا أخذ ما وهب الله وهو العقل سقط عن المرء ما أوجبه عليه من عقاب.

 

– الانتحار بعيد كل البعد عن التفسيرات التي تقول بأنه محاولة لمعانقة الشهرة ولفت انتباه الآخرين، فلا يمكن للإنسان أن يقدم على ذلك الفعل لمجرد شد أنظار غيره؛ فلا فائدة للشهرة إن هلك صاحبها لأنه لن ينتفع بها، لهذا فالتأويلات التي تنحو هذا الاتجاه خاطئة ولا تجانب الصواب في شيء.

 

ليس من السهل الحد من ظاهرة الانتحار والقضاء عليها، الأمر الذي يقتضي أن يتحمل الجميع تلك المسؤولية؛ إذ لا يعقل أن تقع على عاتق فرد بعينه أو جهة معينة بل ينبغي أن يحملها المجتمع بأكمله
ليس من السهل الحد من ظاهرة الانتحار والقضاء عليها، الأمر الذي يقتضي أن يتحمل الجميع تلك المسؤولية؛ إذ لا يعقل أن تقع على عاتق فرد بعينه أو جهة معينة بل ينبغي أن يحملها المجتمع بأكمله
 

– الحياة مغامرة تتطلب الكثير من الشجاعة والصبر لكي تعاش رغم ما تحمله من سوء وشر، لهذا يبقى الانتحار مجرد فكرة غير صائبة وإن كانت سببا في تخلص المرء مما يعاني منه، لكن نحن في حياة فانية أصلا لهذا يبقى ذلك الحل المختار تافها وجبانا سواء أتخذ مخافة من مواجهة أمور زائلة أو هروبا من واقع مؤقت.

 

– أغلب المنتحرين لم يكونوا يرغبون بقتل أنفسهم بقدر ما أنهم كانوا يريدون التخلص من شيء ما في داخلهم اعتقادا منهم بأن لا خيار لهم سوى الانتحار لكي يزول عنهم ما يعانون منه، لذا تجدهم يصارعون بشراسة من أجل العيش وهم في آخر لحظات حياتهم، وبفعلهم زالوا هم وما بهم من هذه الحياة دون اعتبار لما سيكونون عليه في الحياة الأخرى.

 

من هذا كله ينبغي إدراك أن التفكير الدائم في الانتحار يستدعي ضرورة التوجه إلى استشاري أو طبيب نفسي، سلوك هذا التصرف سيؤدي في الغالب إلى تشخيص الحالة النفسية والعقلية واستكشاف خيارات العلاج وخطته، وتجنب العواقب المحتملة إن تركت الأمور بدون معالجة؛ خصوصا وأنه حينما تستحوذ فكرة الانتحار على المرء فإنها تهلك قواه كاملة مما يعني أنه حتما سيفقد الصمود أمام مقاومتها.

 

وبعد كل ما قيل ستظل دوافع الانتحار متعددة ومتنوعة منها ما هو ظاهر للعيان ومنها ما يخفى عليهم، وقد ترتبط بما هو نفسي وعقلي، وقد تتجاوز ذلك إلى ما هو متعلق بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية الرديئة وبالصعوبات الوجودية المرتبطة بالفرد وعتبة تحمله وتصديه للصعاب ومواجهته للإكراهات والمتاعب التي يعيشها في حياته. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن الانتحار تتسبب فيه قوة متجاوزة لقدرة الشخص، وهو عبارة عن إعلان لموقف محدد يتخذه الفرد ضد وضع اجتماعي بعينه، مشيرا إلى أن المجتمعات القامعة هي التي تدفع أفرادها للانتحار بشكل متزايد، وارتفاع معدلات الانتحار ما هي إلا إشارة دالة على وقوع التفسخ الاجتماعي في أوساطها.

 

ليس من السهل الحد من ظاهرة الانتحار والقضاء عليها، الأمر الذي يقتضي أن يتحمل الجميع تلك المسؤولية؛ إذ لا يعقل أن تقع على عاتق فرد بعينه أو جهة معينة بل ينبغي أن يحملها المجتمع بأكمله، لهذا لا يمكن القيام بهذه الهمة الشاقة على أكمل وجه من دون إجهاض الدوافع المؤدية إلى الانتحار، وتجفيف منابعه المتنوعة، ومعالجة مختلف مسبباته حتى تتلاشى هذه الظاهرة وتختفي تدريجيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.