شعار قسم مدونات

هل هناك صراع بين العقل والدين؟!

blogs عبادة

في ظل النقاشات التي يطرحها الدين في الفترة الراهنة، وفي ظل الإشكالات المنبعثة من الدين نتيجة التعصب الذي يلاحقه، وفي ظل ما يحتويه الدين، وما يهدف إليه، وفي ظل الحروب التي يتم انتسابها إلى الدين، وفي ظل كل ما يحوم حول الدين من غموض ومن سوء فهم ومن تفسيرات غير عقلانية، في ظل كل ذلك كان لزاما مساءلة الدين كموضوع، لا بل محاكمته، وكان لزاما النبش في خباياه وأسراره، ولابد من التعامل مع هذا الموضوع بكل عقلانية لمعرفة معنى الدين، ومعرفة الحدود الممكنة فيه، ثم النظر في الحقائق التي يعتبرها الدين مطلقة، إن كانت كذلك، أم أنها ليست سوى من وحي الخيال.

 

قبل أن نأخذ الدين بمحمل الاقتناع، لا بد أن نفهمه، ونستكشف كنهه، ومدى مصداقيته، والحدود الممكنة له، بالإضافة إلى دوره في الحياة، ثم تصوره للوجود والكون، وطبيعة المنطق المستخدم في هذا التصور، ولابد لنا قبل أن نخوض في تفاصيل الدين من تحديد مفهوم الدين، حتى يتسنى لنا معرفة المهمة التي يلعبها في حياة الأفراد، وأن نقارنه بما يناسب الجهة الأخرى من المقارنة، إذ أنه ليس طبيعيا أن نتحدث دوما عن الدين من داخله، على اعتبار أن كل ما جاء فيه قد يكون حقيقة مطلقة، ومن الحكمة أن نسلط الضوء على الدين باعتباره موضوع، من أجل أن نناقش تفاصيله وأسبابه والخبايا التي تكمن فيه، وقد يندرج الأمر ضمن ما يسمى بفلسفة الدين، والتي تتولى هذا الأمر، على غرار الفلسفة الدينية التي كانت تهدف إلى خدمة الدين، كل هذه التساؤلات من أجل إدراك حقيقته وقيمته ومعناه.

 

عندما تعرض الدين للمعالجة والمساءلة، ستجده بمثابة تحليل ميتافيزيقي للوجود، وتصور خيالي للوجود والعدم، هذا التصور لا ينبني على العقل بتاتا، ولعل المتنور لن يصدق ما يجود به الدين من تفسيرات، على عكس المؤمن الذي يجد ضالته وراحته فيه، ذلك أن التفسيرات في الدين تتأسس على معان لا تساير العقل، ولا يمكن تطبيق العقل عليها، ويمكن القول إجمالا إنها تخالف العقل، فإذا كان المتنور يؤمن بما هو عقلاني مادي علمي، فإن المتدين يخالفه الرأي، ويرى بأن ما يحتويه الدين لا يدرك بالعقل، بل بالروح، والإيمان قد يكفي لينجح الأمر، وهنا الصراع الأزلي بين الإيمان والعقل.

 

إذا كان الدين يعتمد على الأسطورة والخرافة والدفع بالإيمان لتصديق ذلك، وإلغاء العقل قدر الإمكان، بالإضافة إلى ادعائه بامتلاك الحقيقة المطلقة، فإن العقل لا يوافقه ولا يسايره بتاتا

هذا الصراع مقترن بزاويتين لا يمكن أن يتفاهمان، بقدر ما يبتعدان عن بعضهما البعض، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان بالعقل إذا كان هناك إيمان خالص بالدين، كما لا يمكن أن يكون هناك إيمان بالدين إذا كان هناك إيمان قوي بالعقل، ولا يمكن أن ترى المسائل التي يحتويها الدين بالعقل، لأنك كلما حاولت ذلك، ستجد أن الأمر لا يليق لا بالعقل ولا بالدين، كما لا يمكن استخدام الدين للتفكير بعقلانية، لأن الحديث عن الدين يكفي لكي نلغي دور العقل، إذ يستحيل أن نتحدث عن عقل متنور يستجيب للدين بكل انصياع، وهنا المسافة بينهما، فإذا كان الدين يعتمد على الروح والمشاعر والإيمان لكي يحظى بفرصة النجاة، فإن العقل لا يسير في نفس المنوال، بل إنه يضع كل ذلك على طاولة الافتحاص، ولعله يعمل وفق منطق عقلاني واقعي علمي بعيد كل البعد عن الميتافيزيقا.

 

من المعروف أن الوعي الإنساني يتطور بوتيرة سريعة، وبقدر ما يتطور بقدر ما يبحث لنفسه عن حقائق علمية، وبنفس القدر ينفصل تدريجيا عن الدين، لأن هذا الوعي لا يوافق الدين، كما أنه من المعروف أيضا أن تطور هذا الوعي لم يأتي باختراق مراحله، فلقد ابتدأ بالأسطورة والخرافة والسحر والدين والفلسفة، ليلوح العلم في المرحلة الأخيرة حاملا معه تفكيرا جديدا، تفكيرا دقيقا، تفكيرا يحاول أن ينفصل عن كل ما لا يوافقه في منطقه الصارم والواضح والصحيح، كما أنه لا يعطي لنفسه المصداقية، بل إنه يرى أن المسائل تتطور، ومن ثم نسبية نتائجه، فإذا كان الأمر كذلك، فإن المرحلة التي وصل إليها الوعي الإنساني ما تنفك تخالف شعائر الخرافة والأسطورة والدين والسحر، هذه المرحلة تحاول أن تأخذ الأمور بواقعية وعقلانية ووضوح، وتبحث عن تفسير كل شيء وفق منطق عقلاني علمي دقيق.

 

إذا كان الدين يعتمد على الأسطورة والخرافة والدفع بالإيمان لتصديق ذلك، وإلغاء العقل قدر الإمكان، بالإضافة إلى ادعائه بامتلاك الحقيقة المطلقة، فإن العقل لا يوافقه ولا يسايره بتاتا، بل إن طريق العقل مبني على المنطق والعلم والوضوح، كما أنه لا يدعي امتلاك الحقيقة، حيث تظل نتائجه نسبية ومعرضة للدحض، ومعرضة للتجاوز، فتاريخ العلم هو تاريخ أخطاء، وتاريخ تصحيح هذه الأخطاء، ومن ثم تجاوزها، نحو استكشاف الأمور بوضوح وتدقيق، هذا ما يسعى إليه العلم، وفي إطار العلم لا يمكن الحديث عن الدين، لأن الحقائق التي يتبناها الدين لا يمكن أن نستخدم العقل من أجل تفسيرها، فلو فعلنا ذلك لوجدناها بدون معنى، ولاكتشفنا مدى ما تنطوي عليه من خرافة وهراء.

 

إذا كان الدين يعطي تفسيرات غير عقلانية للوجود، من خلال أصل الكون ومصيره، وطبيعة الإنسان، فإن نظريات الدين في هذا الصدد لا توافق العقل والعلوم، وإذا أردنا أن نكون متدينين فسنقبل بما جاء في الدين بكل إيمان، وقد لا يكون لذلك أي معنى لو حاولنا أن نكون عقلانيين، وأن نرى الأمور من الزاوية التي تبدو ممكنة، ولعل العلوم والعقل أقرب إلى تفسير الوجود بالشكل الذي يقترب مما هو عليه، ورغم أن ذلك يبقى مجرد فرضيات، إلا أن الأمور كيفما كانت يقبلها العقل ولا يعتبرها حقيقة ثابتة، على عكس النظريات الدينية التي فسرت هذا الوجود تفسيرا لا يساير العقل والممكن، بل إن تلك التفسيرات يمكن درجها في خانة الخيال والأسطورة، وهذه الأمور يعتقد المتدين أنها صائبة، رغم أن استخدام عقله كفيل بأن يرى بأن أمر حصول ذلك مستبعد، بل بالإيمان وحده يمكن أن نتفق مع ذلك، ونعيش على أمل أنه الحقيقة، وأن نوهم أنفسنا بأن ذلك هو الصواب.

 

تكمن قيمة الدين في كونه يعطي نوعا من الأمل للمتدينين، ويجعلهم يرتاحون من هموم الوجود ومن شقاء العقل، ولعل نتشه كان صائبا لما قال بأن وهما ينعش خير من حقيقة تقتل
تكمن قيمة الدين في كونه يعطي نوعا من الأمل للمتدينين، ويجعلهم يرتاحون من هموم الوجود ومن شقاء العقل، ولعل نتشه كان صائبا لما قال بأن وهما ينعش خير من حقيقة تقتل
 

لطالما حاول بعض المفكرين والفلاسفة اللاهوتيين التوفيق بين العقل والدين، وتبقى الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك غامضة، ذلك أن محاولاتهم لا تليق بالعقل ولا بالدين، حيث أن استخدام العقل في الدين يمكن أن يؤدي إلى ما لا يعجب المتدينين، كما أن جعل الدين بمثابة إطار للعقل وحدود له، فذلك لا يليق بالعقل، ويبدو في هذا الصدد وفي إطار التطور الذي يلاحق الوعي الإنساني أن العقل الإنساني لا حدود له، هذا العقل عندما نؤطره بقيود ما، فلا معنى للأفكار التي ينتجها، إذ أن معناه يكتسبه في بحثه المتواصل عن الأسباب المنطقية التي تبدو أقرب إلى الصواب، ومعناه يتجلى عندما لا يتقبل الأمور بدوغمائية، ومعناه يتمثل في فضوله اللامتناهي نحو استكشاف خبايا الوجود، كل ذلك من أجل تفسير هذا الوجود تفسيرا ممكنا مسايرا للمنطق.

 

تكمن قيمة الدين في كونه يعطي نوعا من الأمل للمتدينين، ويجعلهم يرتاحون من هموم الوجود ومن شقاء العقل، ولعل نتشه كان صائبا لما قال بأن وهما ينعش خير من حقيقة تقتل، ومن خلال ما يجود به الدين من تفسيرات وتحليلات تخص الوجود، ومن خلال النظر إلى تلك التفسيرات من زاوية عقلانية، فكل ذلك ليس سوى وهم يمارسه الدين لكي يضع بصمته على تفسير الوجود، ولكي يحقق بعض الاطمئنان لمعتنقيه في أصلهم ومصيرهم، ولأن ذلك وهم، فذلك ينعشهم، وذلك الوهم أفضل من الحقائق التي استكشفها العقل بتساؤلاته وشكوكه، لأن ذلك الوهم لن يدفع بهم إلى دائرة الشقاء كما يفعل العقل بفضوله وتساؤلاته، ولأن الوهم مريح ويجلب الاطمئنان، فإن المتدين يفضله على ما ينبعث من العقل من هموم. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.