شعار قسم مدونات

ميدالية فيلدز.. قصة جائزة الرياضيات المرموقة!

BLOGS الرياضيات

في الأول من شهر آب/ أغسطس الماضي جرت في مدينة ريو دي جانييرو البرازيلية خلال المؤتمر الاتحاد الدولي للرياضيات مراسم توزيع ميدالية فيلدز للرياضيات في نسختها التاسعة عشرة بالإعلان عن فوز أربعة علماء رياضيات بهذه الجائزة العلمية المرموقة. ورغم أن هذه الجائزة كثيرا ما توصف بكونها تضاهي جوائز نوبل من حيث قيمتها العلمية الرفيعة فإنها لا تحظى بنفس الاهتمام الإعلامي ولا يعرف الكثيرون عنها إلا القليل. فما هي قصة إنشاء هذه الجائزة وما علاقتها بجوائز نوبل؟ وما هي شروط الحصول عليها؟ ومن هو العالم العربي الوحيد الذي فاز بها؟

 
يعود الفضل في إنشاء ميدالية فيلدز للرياضيات والمعروفة رسميا باسم "الميدالية الدولية للاكتشافات فائقة التميز في الرياضيات" لعالم الرياضيات الكندي جون رتشارد فيلد John Charles Fields (1863-1932) الذي اقترح بعثها خلال مؤتمر دولي للرياضيات انعقد في عام 1924. وكان فيلدز يعتقد اعتقادا راسخا بضرورة وأهمية مثل هذه الجائزة، لدرجة أنه تبرع بجزء هام مما كان يملك يقدر 47 ألف دولار كندي لفائدة الجائزة. غير أن التأسيس الفعلي للميدالية استغرق وقتا طويلا فتوفي فيلدز قبل أن ترى الجائزة النور. وقد يكون لوفاته دور في الإسراع بعد ذلك بتنظيم الدورة الأولى عام 1936 ضمن فعاليات المؤتمر الدولي للرياضيات لتلك السنة. غير أن الدورة الثانية لإسناد هذه الجائزة لم تنعقد إلا عام 1950 بسبب الحرب العالمية الثانية.

لا شك أن لاستبعاد ألفرد نوبل (1833-1896) الرياضيات من قائمة العلوم المعنية بالجائزة التي أوصى بتأسيسها في وصيته أثر مباشر في تأسيس ميدالية فيلدز للرياضيات. فما كان للعالم الكندي أن يقترح إنشاء جائزة خاصة بأنبل العلوم الصحيحة لو كان العالم السويدي قد خصها بجائزة من جوائزه. ورغم أن نوبل لم يبين سبب ذلك إلا أن بعض المصادر تورد أسبابا شخصية لم تثبت وقائعها بينه وبين عالم الرياضيات السويدي غوستا ميتاج-ليفلر Gösta Mittag-Leffler (1846-1927) جعلت الأول يحجم عن ذلك. وحسب المصادر المختلفة يبدو أن الرجلين لا يتبادلان مشاعر ودية بينهما. ويروي جون رتشارد فيلدز نفسه عن ميتاج-ليفلر الذي كانت تربطه به علاقة صداقة أن نوبل كان يعتقد بأن ميتاج-ليفلر كان سيفوز بجائزة نوبل في الرياضيات إذا ما تم بعثها لذلك استبعد مجال الرياضيات من الجوائز.

  

تختلف قواعد إسناد ميدالية فيلدز بعض الشيء من حيث عدد الحاصلين عليها في كل دورة، واقتضت القواعد المنظمة للجائزة في أول الأمر ألا تُسلم الميدالية في كل دورة إلا لعالمين فقط

ورغم التشبيه المتداول لميدالية فيلدز بجوائز نوبل من حيث قيمتها العلمية فإن ذلك لا يخفي وجود أوجه اختلافات كثيرة بينهما. أول هذه الاختلافات في دورية إسناد الجائزة، فعلى خلاف جائزة نوبل التي تسلم سنويا دون تحديد لسن المترشحين، تمنح ميدالية فيلدز لعلماء الرياضيات المتميزين الذيم لم يتجاوزوا الأربعين كل أربع سنوات، وهو ما يفسر العدد المتواضع للفائزين الذي لا يتجاوز الستين رغم مرور 82 عاما على تأسيس الجائزة.

 
كما تختلف قواعد إسناد ميدالية فيلدز بعض الشيء من حيث عدد الحاصلين عليها في كل دورة، واقتضت القواعد المنظمة للجائزة في أول الأمر ألا تُسلم الميدالية في كل دورة إلا لعالمين فقط قبل أن يتم تعديلها للسماح بتسليم الميدالية لأربعة علماء في الدورة الواحدة بداية من العام 1966. وهي القاعدة التي تم تطبيقها في جل الدورات اللاحقة فيما عدا دورتي عامي 1974 و2002 اللتان سلمت خلالهما الميدالية لعالمين فقط ودورة 1982 التي حصل خلالها ثلاثة علماء على ميدالية فيلدز. وفي كل الحالات يحصل كل فائز إضافة إلى الميدالية على مبلغ يساوي 15 ألف دولار كندي وهو مبلغ ضئيل مقارنة مع يحصل عليه الفائزون بجوائز نوبل (حوالي مليون دولار أمريكي).

  
لا بد من الإشارة إلى أن ميدالية فيلدز لم تعد منذ العام 2003 الجائزة المرموقة الوحيدة في مجال الرياضيات، بعد إنشاء جائزة علمية أخرى هي جائزة آبيل بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لولادة عالم الرياضيات النرويجي نيلز هنريك آبيل (1802-1829) Niels Henrik Abel ، وأُرِيدَ لهذه الجائزة أن تكون على منوال جوائز نوبل جائزة سنوية لتكريم أفضل علماء الرياضيات دون تحديد للسن. كما أن قيمتها المالية تضاهي جوائز نوبل وتسلم في شهر مارس من كل عام في حفل تنظمه الأكاديمية النرويجية للعلوم والآداب يشرف عليه ملك النرويج.

  
ويعيب البعض على جائزة فيلدز انتقائيتها الشديدة حيث يتعين اختيار علماء دون الأربعين من العمر كما سبق ذكره قاموا باكتشافات فائقة التميز في أحد مجالات الرياضيات. وهو ما يقصي العلماء الذي تألقوا بعد سن الربعين. وكان من نتائج تطبيق هذه القواعد اقصاء علماء رياضيات كبار تألقوا بعد سن الأربعين وحصول امرأة وحيدة على ميدالية فيلدز وهي الإيرانية مريم ميرزاخاني (1974-2017) في عام 2014 من بين 59 فائزا إلى حد اليوم.

يعتبر عطية واحد من أشهر علماء الرياضيات في القرن العشرين. وله نظريات خاصة مشهورة؛ منها «K»، و«نظرية أس عطية-سينجر»، وكلتاهما من النظريات التي كان لها أثر بعيد في تطوير علم الرياضيات
يعتبر عطية واحد من أشهر علماء الرياضيات في القرن العشرين. وله نظريات خاصة مشهورة؛ منها «K»، و«نظرية أس عطية-سينجر»، وكلتاهما من النظريات التي كان لها أثر بعيد في تطوير علم الرياضيات

أما بالنسبة للعلماء العرب فلا يختلف وضعهم إزاء ميدالية فيلدز عنه إزاء جوائز نوبل في مجال العلوم، إذ أن عالما عربيا وحيدا سبق له الفوز بالميدالية وهو عالم الرياضيات اللبناني الأصل البريطاني الجنسية مايكل عطية في العام 1966. ولئن نال البروفسور أحمد زويل رحمه الله العالم العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل (في المجالات العلمية) شهرة واسعة وحظوة إعلامية كبيرة فإن مايكل عطية عير معروف لدى الجمهور العربي الواسع رغم مكانته الدولية الرفيعة.

 
ولد مايكل عطية في لندن عام 1929 وعاش طفولته بين السودان ومصر حيث كان يعمل أبوه قبل أن يستقر نهائيا في بريطانيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية أين حصل على الدكتوراه عام 1954 في الرياضيات في جامعة ترينيتي بكامبريدج. درّس في أشهر الجامعات البريطانية مثل كامبريدج واوكسفورد ورأس الجمعية الملكية البريطانية بين عامي 1990 و1995.

ويعتبر عطية واحد من أشهر علماء الرياضيات في القرن العشرين. وله نظريات خاصة مشهورة؛ منها «K»، و«نظرية أس عطية-سينجر»، وكلتاهما من النظريات التي كان لها أثر بعيد في تطوير علم الرياضيات. ومن أبرز أعماله كذلك استخدامه الهندسة الجبرية لإنشاء معادلات تفاضلية جزئية، وهي معادلات مهمّة في الفيزياء النظرية. وقد نال هذا العالم العربي الكبير على العديد من الجوائز الدولية في العلوم والرياضيات، وهو واحد من العلماء القلائل في العالم الحائزين على ميدالية «فيلدز» وجائزة آبيل في الرياضيات في نفس الوقت. وقد سئل أثناء محاضرة ألقاها في بيروت عام 2006 هل هناك جائزة في الرياضيات لم يفز بها فكانت إجابته بالنفي. فمتى نرى عالما عربيا آخر يتوج بهذه الجائزة العالمية المرموقة من جديد؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.