شعار قسم مدونات

أمي.. ليتني كنتُ معك..

مدونات - مقابر

لَيتَني كنت.. أي بني أين انت؟ تأخر الوقت وانت لم تعد بعد! اليوم هو دورك لكي تنام بجانبي، ألن تأتي؟! أباك رحل منذ أقل من سنة ولم يعد، وها أنت ذا اليوم ترحل وتتركني أتقلّى في لهيب الانتظار. إن كنت راحلاً دون عودة، لِمَ لَم تخبرني بذلك؟ لِمَ لم تودعني بقبلة أخيرة، خرجتَ مهرولاً إلى حافلة المدرسة دون أن تقبلني ككل صباح، خرجت مسرعاً إلى البحر الميت، إلى حتفك! هل كنت تعلم أنك راحلٌ إلى حيث أبيك؟ لِمَ خبئت عليّ؟ لم أكن لأمنعك ولكني كنت سآتي معك، لو كنتُ معك، لَأَخذنا البحر ولقيناه سوياً، يا ليتني كنتْ..

عد بني فإني والله ما عدتُ أحتمل ألم الفراقِ والوداع، عد فإن فراقك للقلب فاجعة وللروح انكسار، عد بني وكفاك عناداً.. أخوك أحمد يرقد في السرير الأبيض ويتركني هنا وحدي أعاني انغراس سكين فراقك في صدري ومرارة انتظار خروجه بسلام. يقول الطبيب أن وضعه أقرب إلى الاستقرار ولكنه لا يسمح لي بالدخول إليه، أريد أن أقبله كثيراً وأعاتبه كثيراً كثيراً، أن كيف يتركك بعيداً عنه، لِمَ لَم يمسك بيديك عندما همّ البحر بخطفك، كيف ينجو وحده ويدعك وحيداً لتبتلعك السيول الجارفة والرياح الخاطفة؟ أوصيته في الصباح ألا يبتعد عنك، هل تخاصمتما هناك كما تفعلان دوماً؟ لم أكن هناك لأُصالحكما، يا ليتني كنت..

أمي أخيراً التقيت بأبي، لم أره منذ زمن، آخر مرة رأيته فيها في المنام، قال لي أنه يشتاق إلينا كثيراً، كان سعيداً جداً لرؤيتي، ويمان وجدته هناك أيضاً، هو الآخر كان سعيداً.

أي أمي هوّني عليك، أنا لم أمت فها أنا ذا أسمعكِ، روحي تدور حولك ألا تشعرين بقربي، انتقلت اليوم إلى أحضان السماء، طيراً في الجنة. لقِيَني أبي يا أمي احتضنته طويلاً وقبّلته كثيراً، حملني وطار بي في العالي، آه كم كنت أشتاق إليه يا أمي، سألني عنك، وقال أنه يشتاق إليك كثيراً كثيراً. أخبرته أنكِ بخير، ولكني فاتني أن أقبلك هذا الصباح، لا تحزني أمي فعندما أجتمع بك في الجنة سأقبلك كثيراً وأعانقك طويلاً، وسأقبل أخي أحمد أيضاً عرفت أنه سيأتي إلينا قريباً.

أمي أين انت؟ أريد أن أعود للمنزل، اشتقت إليك يا أمي، ألَم تحن الساعة السابعة بعد؟ أخبرتني المعلمة أن رحلتنا ستنتهي في السابعة! أمي المكان هنا موحشٌ ومخيف، ثمة شيءٌ ما يتربع على صفحة وجهي، والتف حول رأسي الكثير من البياض المنقط بالأحمر وهناك شيئا ما يرقد على يدي وغرسوا الكثير من الإبر في يدي. لم أشعر بألم، كنت أظنها مؤلمة، أذكر أن أبي كان يتألم كثيراً من وخزات الإبر عندما كان يحارب وحش السرطان، آهٍ كم اشتقت إليك يا أبي.

أمي أين أخي يمان اليوم دوره في النوم بجانبك، لابد أنكما ترقدان في السرير الآن، آه يمان، حاولت أن أبقيه بجانبي كما أوصيتني يا أمي لكنه أصر أن يلعب مع رفاقه ولم يسمع كلامي يا أمي، أخبرته أنك سوف توبخيه لكنه لم يسمع وظل عنيداً كما هي عادته. كنت أتابعه بعيني من بعيد كان سعيداً مع أصدقائه، وكنا جميعا سعداء، كنا نلعب ونأكل مما امتلأت به حقائبنا، كان الجو مشمساً وصافيا ولكن فجأة تغير الجو، حينها كنا نسير عبر الوادي والمياه يغطي جزءاً من أرجلنا. أمطرت بغزارة وبدأ منسوب المياه تحت أقدامنا يزداد أكثر فأكثر وبسرعة كبيرة، حتى غطى أجساد بعضنا، سمعت المعلمة تصرخ بنا "أسرعوا أسرعوا الى هناك".

جرينا جميعاً باتجاهٍ قد يكون أكثر أماناً، جرينا بكل ما أوتينا من قوة ولكن السيل كان أسرع منا والخوف كبّل أرجلنا وتعثرنا كثيراً، بحثت عن يمان بعيني سريعاً لكني لم أراه، ثم شعرت بالماء يدفعني بقوة أكبر نحو الخلف. حاولت، قاومت، دافعت لكنها كانت أقوى مني بكثير، كانت جبارة، لم يكن ليقدر عليها أحد عداكِ يا أمي. لو كنت معنا حينها لكنت منعتها من السيل نحونا، وأنقذتنا من هيمنتها على أرواحنا وأجسادنا الصغيرة. ليتكِ كنتِ..

رباه ما عاد القلب يطيق، عذاب على عذاب، ألم على ألم ومر على أمَر، نفذ صبري وهلك جسدي، وانفطر قلبي، خذني إليهم يا الله، فما عاد لي هاهنا حياة، كيف أعيش في عالم أصبح قاحلاً بعدما ازدان بحلاوة أرواحهم. 
رباه ما عاد القلب يطيق، عذاب على عذاب، ألم على ألم ومر على أمَر، نفذ صبري وهلك جسدي، وانفطر قلبي، خذني إليهم يا الله، فما عاد لي هاهنا حياة، كيف أعيش في عالم أصبح قاحلاً بعدما ازدان بحلاوة أرواحهم. 

أحمد، يمان، يا مقلة عينيّ وفلذات أكبادي عودا إلى أحضاني، لن تجدا قلباً أحن عليكما من قلبي، عودا ولن تجدا بعد اليوم إلا ما يسركما، عودا واملآ البيت مرحاً وطرباً، تقافزا على الأرائك والأسرة ما شئتما لن أمنعكما، سأتقافز معكما. اصرخا، دورا حولي، دورا في البيت كيفما شئتما، اسهرا من الليل ما استطعتما، لن أجبركما على النوم باكراً. سنسهر طويلاً ونلعب كثيراً وسنذهب كل يوم في نزهة، وننام منهكين من تعب اللعب. سأحبكما أكثر وأحتضنكما أكثر وأكثر، ولكن عودا. عودا ولوّنا حياتي بفرشاة ضحكاتكما وشقاوتاكما، عودا فوالله ما أصبرني على فراق أبيكما سواكما. من سيركب ظهري ويحتضن عنقي بيديه ويقبلني كي أصفح عنه يا يمان، من سينشد لي "أمي ثم أمي" في عيد الأم يا أحمد، من سيصم أذني وهو يصرخ "أحبك أمي، أحبك أمي" ومن سينام بجانبي كل يوم، من ومن ومن؟

أمي، ما بالهم كلهم يلتفّون حولي؟ وذاك ذو الشعر الأبيض يضع شيئاً ما على صدري، ويضغط، يا إلهي جسدي كله يهتز بقوة، أمي، أمي أين انت؟ أنا خائف يا أمي، أمي.. أمي أخيراً التقيت بأبي، لم أره منذ زمن، آخر مرة رأيته فيها في المنام، قال لي أنه يشتاق إلينا كثيراً، كان سعيداً جداً لرؤيتي، ويمان وجدته هناك أيضاً، هو الآخر كان سعيداً، لم ينم بجانبك الليلة إذن، هل نمتِ وحدك؟ ألم تخافي؟ كنت تقولين أنك تحبين أن تنامي بجانب أحدنا، كنت تحتضنيننا قبل النوم كل ليلة، سننام الليلة مع أبي، افتقدناه واشتقناه كثيراً.

أمي ما بالك ارتميتِ أرضاً؟ كلهم يركضون حولك، ما بالهم؟ هل أصابك مكره؟ لا تحزني أمي سننام الليلة بجانبك، أنا، يمان وأبي، سنظل معك طوال الليل، لن تَرَينا ولكننا نراكِ. بُلِيَت أجسادنا ولكن أرواحنا لم تُبلى، ها هي حولك ألا تشعرين بها. لو أنك تأتين إلينا سترينا ونراك ونجتمع أبداً ولا نفترق، هنا في الجنة الحياة مليئة بالحياة، الناس طيبون والحياة رغيدة لدينا كل ما نريد، نعيش في قصور عظيمة، نرتوي من أنهار جارية عذبة لا تنضب، ما أجمل الجنة يا أمي.

رباه ما عاد القلب يطيق، عذاب على عذاب، ألم على ألم ومر على أمَر، نفذ صبري وهلك جسدي، وانفطر قلبي، خذني إليهم يا الله، فما عاد لي هاهنا حياة، كيف أعيش في عالم أصبح قاحلاً بعدما ازدان بحلاوة أرواحهم. شقاوتهم وضحكاتهم وخلا اليوم من كل حياة، من كل روح ومن كل من كان يسند قلبي ويبهج روحي، خلا من مُهَج فؤادي، خلا من كل شيء إلا من جسدي فقلبي بالحزن اسودّ واندثر وروحي على فراقهمُ انطفأت. أمي لِمَ لا تنامي في سريرنا؟ لِمَ ترقدين ها هنا بلا حراك؟ في مكان لفه البياض ولا شيء إلا البياض! وهؤلاء يعبثون بجسدك ويضربونك الحقنة تلو الأخرى، يبدو المكان موحشٌ جداً يا أمي، لِمَ لا تأتين إلينا، الألوان هنا – حيث نحن – تملأ الأرجاء، تبعث الحياة في النفس. الجنة خيرٌ لكِ من هذا البياض الموحش يا أمي. تعالي أمي تعالَي. ها أنا ذا آتية يا بني، يبدو أن الله سمع دعائي وتلطف االله بي ورأف بحالي، انتظروني..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.