شعار قسم مدونات

هل أصبح فيسبوك هو الواقع الحقيقي الذي نعيش فيه؟

blogs فيسبوك

يعتبر مجال التواصل الاجتماعي، مجالاً خصباً للدراسة والكشف والتنقيب، بل الغور في عمق التحولات المجتمعية والقيمية والدينامية الذي أصبح يعرفها المجتمع. والسلوك الذي أضحى يتسم به الفرد/ الكائن الافتراضي بامتياز، فتواجد الفرد في المجال الافتراضي أقوى من تواجده في المجال الواقعي. حيث يتفاعل على مدار الساعة مع كل المنشورات باختلافها واختلاف مضامينها – صور، فيديوهات، تدوينات.. 

وتتغير ردود فعل الفرد مع كل منشور سواء كان محتواه مكتوباً أو صورة أو فيديو، ويتراوح سلوكه في اللحظة نفسها ما بين الاستنكار والتنديد والغضب، وما بين البهجة والسرور والقهقهة والابتسامة. سلوك متناقض في الآن واللحظة نفسها، يغضب ويحنق لمحتوى المنشور ويضحك أو يبتهج ويسر للمنشور الذي يليه مباشرة. تتعدد وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي، الذي يضطر الفرد إلى ولوجها للتعبير عما يعتمل بداخله من أفكار ورؤى ومطالب. وقد يلجأ أيضاً لإحساسه بالاعتراف بكينونته من خلال تفاعل أصدقاءه مع ما يشاركهم به من منشورات، وإحساسه بانتفاء هذا الاعتراف على المستوى الواقعي، لذلك يكون في بعض الاحيان لجوءً اضطرارياً للفرد لمواقع التواصل الاجتماعي والغوص فيها لساعات طوال.

الذي يثير الأسئلة هي الإعلان عن حالة وفاة بعيد المصاب الجلل، فكيف يحضر لدى الفرد في هذه الحالة الصعبة والمحزنة أن يهرع للتو لنشر خبر الوفاة وهو تحت وقع الصدمة.

إن وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام، وموقع فيسبوك بالخصوص الذي يعج بالكثير من المنخرطين والمتفاعلين، لم يعد فضاءً للتواصل والتفاعل مع مختلف القضايا المجتمعية ونشر التدوينات والصور الشخصية.. بل تعدى ذلك ليتسع إلى فضاء للتقاسم مع مختلف الأصدقاء كل المستجدات الطارئة في الحياة الشخصية للفرد. هذه المستجدات التي كانت حكراً على أفراد العائلة والمقربين، لتصبح اليوم متاحة على نطاق واسع.  لقد تم الانتقال من زمن الخصوصية إلى زمن اللاخصوصية، ففي اللحظة التي يزدان مثلاً فراش أحدهم بمولود جديد، يهرع الفرد مباشرة للإعلان عن هذا الخبر عبر جدار الفيسبوك قبل إعلام العائلة.

لكن الذي يثير الأسئلة هي الإعلان عن حالة وفاة بعيد المصاب الجلل، فكيف يحضر لدى الفرد في هذه الحالة الصعبة والمحزنة أن يهرع للتو لنشر خبر الوفاة وهو تحت وقع الصدمة. بل في بعض الحالات يتم أخذ صورة مع الميت محنط في الكفن ونشرها دون احترام لحرمة الميت فكيف يحضر كل هذا تحت صدمة الفراق؟ وكذلك استغلال ونشر لحالات إنسانية ضحية الاستبعاد الاجتماعي، لحصد إعجابات المتتبعين.. علاوة على نشر برقيات التهاني وبرقيات التعازي للمقربين الذين لا صلة لهم مسبقة بأصدقاء الفرد الفيسبوكي.

أكثر من ذلك، فالفيسبوك أمسى جداراً لبعض الأساتذة لإشعار طلبتهم بكل المستجدات (مواعيد الحصص الدراسية، إشعار بعدم الحضور، مواعيد الامتحانات..) فبعدما كانت تُخصص مساحة معينة في الجامعات تثبت فيها مختلف المستجدات والإعلانات، أصبح جدار الفيسبوك أيضاً يقوم بالوظيفة نفسها. بل لقد أضحى الفيسبوك فضاءً أيضاً للسجال والصراع السياسي وحتى الحكومي، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة من مثل السجال حول الولاية الثالثة لعبد الاله بنكيران وما أعقبه من تدوينات سياسية وأخرى مضادة لا تخلو من حدة في الرد والتعقيب والتأثير.

وأشير هنا لما يمكن تسميته بصناعة التفاهة والرداءة، من خلال شيوع ما يسمى بالمأثرين والنشطاء الاجتماعيين، الذي يعملون على كسب أرباح من خلال المراهنة على عدد المتتبعين والمشاهدين دون أدنى قيمة مضافة. فماذا ينتجون هؤلاء، هل ينتجون أفكاراً أو رؤى مجتمعية، بل إنهم يحترفون لغة شعبية التي توغل في العواطف والعزف على أوجاع الناس من أجل دراهم معدودة، تنهل من خطابات حماسية غير عقلانية، ولكن ارتفاع أسهم وذيوعهم يكتسبونها من خلال الجمهور المتتبع الكبير الذي يجعل منهم مأثرين وأصحاب رؤية وحصافة.

إن فضاء التواصل الاجتماعي الذي تحول لفضاء واقعي يقطن فيه الفرد ويتفاعل مع كل ما يموج به هذا الفضاء بدون انقطاع، يُنذر بالتحولات القيمية للفرد والمجتمع، ويؤشر على عبورنا من زمن خصوصية الفرد والعائلة إلى زمن اللاخصوصية لهذا الفرد والجماعة، ويدل على أن فضاء التواصل الاجتماعي فضاء يحاكي ويوازي الواقع، ويؤثر في سلوكنا اليومي وقيمنا المجتمعية وعاداتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.