شعار قسم مدونات

الموت أم الحياة في سبيل الله؟!

blogs الموت

منذ أقدم العصور، مثَّل الموت اللغز الأكبر الذي أفزع القلوب وحيّر العقول. أن يعرف يقينا أنه سيفنى تماما كما يفنى الحيوان والنبات وأن صوته سيُخمد كما لو أنه لم يكن، هو حقّا أمر مربك. الخلود فقط للآلهة وليس للبشر باستثناء أتونابشتام بطل ملحمة الطوفان البابلي لجيلڨامش. فهو استحق الخلود لأنه قام بعمل خارق للطبيعة حيث أبعد النسل البشري من الهلاك والانقراض من الطوفان. وللموت تكهنات ونظريات حسب الحضارات. إذ ينقسم الكون في الميثيولوجيا الإغريقية إلى ثلاثة عوالم، السماء والأرض والعالم السفلي. حيث يترأس هذا الأخير إله هيدز وهو الأكثر إخافة في مجموعة آلهة الإغريق. عندما يموت الشخص يستقبله هرمز ويقوده الى المدخل وهناك يستقبل ثلاثة قضاة ويقومون بالحكم عليه.

أما بالنسبة للإنسان في بلاد ما بين النهرين فقد آمن بوجود كذلك هذا العالم السفلي حيث يسكن الأموات. عالم على شكل مدينة كبيرة جدا حيث الظلمات الأبدية. لكن دون حساب مع الخالق فقط سبعة قضاة يساعدون إله هذا العالم وزوجه لتسيير شؤونهم كما لو أنهم لم يكونوا. ناهيك عن الثقافة الفرعونية التي اشتهرت بتحنيط موتاها إيمانا منهم بفكرة البعث والخلود والأبدية. لتتوج هذه الحضارات بتصوّرات الأديان التوحيدية خاصة الإسلامية التي بدأت الأكثر وضوحا رغم بعض الغموض. ورغم اختلاف زوايا التفكير، تظل الإشكالية المطروحة التي على مفادها يراهن الإنسان: ما بعد الموت نعيم أم جحيم. لذلك كرّس الانسان حياته، على الأغلب في حال اهتمامه بالأمر، من أجل ضمان قد يكبح جماح خوفه وإن كانت ذلك مسألة وقتية نسبية تحلّ مشكل اليوم.

وفي كل الثقافات المؤمنة والغير مؤمنة، يظل الخير الحل الأنجع لحل الأحجية وفك شيفراتها. لذلك تأسست نظرية الخير الصّالح والشر الطالح. وعلى هذا المنوال سعى البشر للاستقامة الجسدية والفكرية والاجتماعية تقنينا لرغبته في حياة سعيدة تليق بعمله الدنيوي أو أكثر كَهبة إلهية لاجتهاده. ومن ضمن الأعمال الخيروية حب الإنسان الآخر ودفع البلاء عنه وحمايته من الأمراض والموت إن لزم الأمر. وهذا ما خلق استثناء في ثقافتنا نحن المسلمين ألا وهو: الموت في سبيل لله لدحر الظلم عن الغير تأسيسا لمبدأ الموت من أجل الحياة، النهاية من أجل البداية.

أؤمن حق الإيمان بحياة الإنسان وهي فوق الأرض لا تحتها. فنحن البشر قادرون، رغم استهزائنا بقدراتنا، على تحمل التصدّعات والتشققّات كبيرة كانت أم صغيرة

شكليا، البلدان التي أغلب مواطنيها مسلمون راغبين في الجهاد لما يترتب عنه الخلود في النعم دون حساب. لكن ما يشدّ انتباهي ويثير تساؤلاتي: هل رهان سالكي هذا الطريق المختصر، على الأقل في العصر الراهن، هو حب الله المقصود به حب الأخر إذا توازى مع النبل باعتبار أن الذات الإلهية في غنى عن هذه التضحيات الجسام، أم وراءه أنانية حيوانية ومصالح ذاتية بحتة تبلورت تحت برقع الشجاعة والشهامة والرجولة إن صح التعبير. وفي بعض الأحيان هناك من اهاضته الحياة ولم تعد تتسع لأحلامه وطموحاته. لذلك قرر إنهاءها بطريقة جد أنيقة على الأقل يُنصفه الموت بعد أن أذلته الحياة أي انتحار في قالب جهاد.. وفي أحيان أخرى خوفا من عار الجُبن الذي سيُلحق به وبعائلته إن لم يلتحق بأترابه.

قد تتعدد النوايا والأسباب لكنها لا تهم أيّا كان فإن كانت محددة مصير الفرد فلا دخل للجماعة فيها. في حين ما يهمّ حقا وما يشكّل خطرا على تماسك المجتمع هو الاصطياد في المياه العكرة. كيف ذلك؟ العملية بسيطة جدا، حينما تصبح الحياة الوردية سهلة الملاذ بمجرد إنهاء نظيرتها السوداء وبالتالي استغلال هذا الفراغ الحسّاس لخدمة المصالح الخاصة. ومن هذا الرّحم، وُلدَت تجارة مربحة.. قد تكون الأربح على الإطلاق: تجارة العقول وهي أشد فتكا من بيع الأعضاء وأقل إنسانية من بيع النساء. حين يتمكن شخص ما صاحب مكر وحيلة من تحويل وجهة أفكار شخص آخر في حالة من الفراغ الذي ذُكر منذ قليل.. حلّت الكارثة.

كيف لا وبعض المتدينين مِن من يصفوهم بشيوخ الدين يقفون في منابر المساجد والبرامج التلفازية تحرّض على الموت والعزوف عن الحياة وكأن ذلك سيحل القضية التي من أجلها يفني عمره. ولو كانوا على اقتناع بكلامهم الرطب لكانوا هم أول المقاتلين أو حتى ذويهم وأقربهم الى قلوبهم. فتراهم يرسلون من سقط ضحية الشخصية القابلة للسيطرة إلى الموت في حين يرسلون أبنائهم فلذة أكبادهم إلى ما يصفونهم بالكفار حيث يحتضنون الحياة من كل حدب وصوب.

وما على العاقل أن يمتعّن ويتبصّر ويتفطّن إلى الشِّباك التي يرميها المتحيلون. ويجعلون العقل نصب أعينهم بعيدا عن المشاعر المرهفة حيث أضحت أوتارا حساسة للإتّجار. كذلك، ولنفترض جدلا أن المقاتل قرر ما قرر دون أي وجود لمجموعات تحرّكه، إلى أي مدى يمكن أن تكون مجهوداته منعرجا في القضية المدافع عنها؟ وهل للجهاد شروط تستوجب هذا وتستثني ذاك؟ وهل من المفروض دراسة حجم القوى بين الطرفين حتى لا تضيع روحه سدى وتُسحق حياته في مهب الريح؟ أسئلة كثيرة في غياب كلّي للأجوبة وما على القارئ إلا البحث حتى يتفطن إلى مغزى الإشكال.

خير تحدي، على الأقل بالنسبة لي، هو تعرية العقل من التخلّف والجهل والخمول وتركه في معترك الحياة وتحمّل ضرباتها، هذا ما يسمى الحياة في سبيل الله
خير تحدي، على الأقل بالنسبة لي، هو تعرية العقل من التخلّف والجهل والخمول وتركه في معترك الحياة وتحمّل ضرباتها، هذا ما يسمى الحياة في سبيل الله
 

على كل حال، رحم الله كل روح أرادت الخير وأعان الله كل ساعد جاهد حق جهاده في هذه الدنيا لتحقيق ذات الخير. قد يُخيّل للقارئ أنّي ضعيف الواعز الديني والجسدي حتى أصبحت أتفوّه بهذه الترهات.. لكنّي أؤمن حق الإيمان بحياة الإنسان وهي فوق الأرض لا تحتها. فنحن البشر قادرون، رغم استهزائنا بقدراتنا، على تحمل التصدّعات والتشققّات كبيرة كانت أم صغيرة. فقط نحن بحاجة لتلك النبضات المعدودات وإن آلمتنا في بعض الأحيان. لأنها قادرة على خلق المعجزات رغم وعاثه الطريق. فقط نحن بحاجة إلى جرعة كافية من الإيمان بالقوة الجبّارة التي تسكن الجوف لتتحدى العثرات.

لذلك وجب علينا أن نسود الحياة لا أن نتركها، ترذخنا وتنهينا كما لم نكن. لن نغادرها خوفا منها أو من عيشها بمرارة أو حبا فيما هو أفضل. خير تحدي، على الأقل بالنسبة لي، هو تعرية العقل من التخلّف والجهل والخمول وتركه في معترك الحياة وتحمّل ضرباتها. هذا ما يسمى الحياة في سبيل الله نسقط تارة ونقف تارة أخرى. لست مازوشيا لكني أعشق الدم الذي ينهمر في الوغى لأني أعلم يقينا أن ذلك سيزول ولن يتركني صريع الأرض. أحب أن أكتشف قوتي الموءودة.. أريد انبعاثها من تحت الرماد ولن يحدث ذلك إلا في ساحات الحرب.. حرب الغباء المُستَهلَك. أن تجعل تغيير الواقع نصب عينيك وتعمل جاهدا على تحقيقه خير تحدّي وإن بدا ذلك أشد استحالة من المستحيل. ما لم يُدرك بالعمل القليل.. يدرك بالكثير. فلندع اليوم الآخر ومشاغله وحسابه ومصيره لله وحده ونركّز أفكارنا حول الحياة أسرارها، نواميسها، قوانينها، عجائبها من أجل تحقيق ما أرادوه هم بالموت. لذلك سنأخذ نفسا عميقا ونسير في دروبها ولنحياها في سبيل الله. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.