شعار قسم مدونات

رسائل غزة تحت النار وفوقها!

Demonstration from Palestinians after the resignation of Israeli Defense Minister Lieberman- - GAZA CITY, GAZA - NOVEMBER 14: Palestinians hold a placard during a demonstration after Israeli Defense Minister Avigdor Lieberman's resignation following the ceasefire between Palestine and Israel has been achieved in Gaza City, Gaza on November 14, 2018.

لعلّه لم يسبق للقضيّة الفلسطينيّة أن مرّت بمثل هذه الأيام، ضعفٌ وانقسامٌ سياسيّ داخليّ، وتآمرٌ دوليٌّ وإقليميٌّ، وتطبيعٌ سافرٌ علنيّ، ورغبةٌ محمومةٌ في تصفية القضية بالكلية، استغلالًا للظروف الإقليمية الحساسة، بانقشاع سحابة الربيع العربيّ، وانحسار موجته التي زلزلت عروش المنطقة. تزامن الصعود العالميّ لليمين المتطرّف، المعادي بطبعه للعرب والمسلمين، والموالي لمركز التطرّف والإرهاب في العالم = الكيان الصهيوني، مع رغبة الناجين من حكام العرب من زلزال الثورات في تثبيت كراسيهم، وفي إنهاء حالة التمرّد الأخيرة في المنطقة، وهدم آخر قلاع ما يسمونه بالإسلام السياسيّ، أسّسا لعزمٍ دوليّ وإقليميّ غير مسبوق في إنهاء الملفّ الفلسطينيّ عبر "صفقة القرن"، وتحطيم النموذج العصيّ على التدجين في غزة.

ما تعانيه الدول ذات العلاقة الجيدة بغزة ومقاومتها، لم يكن بعيدًا أيضًا من المعادلة، المناوشات الأميركية التركية وما تخلّفه من آثار على الاقتصاد التركيّ، والحصار المضروبُ على قطر، والعقوبات التي يُعاد فرضها على إيران، تعقّد من ظروف المقاومة بغزة، وقد أعان النزاعُ الخليجيّ العدوّ الصهيوني في عزل المقاومة الفلسطينية، إذ صارت خطوات قطر تجاه غزة محسوبةً جدًّا، بعد أن استثمر اللوبيّ الإماراتي السعوديّ في أمريكا تقارب قطر وحماس، لإلصاق تهمة دعم الإرهاب بالحكومة القطرية.

هذه العواملُ المقلقة، ينضافُ إليها حربُ العقوبات الاقتصادية الطاحنة التي يشنّها الرئيس عباس على غزة منذ عامٍ ونصف، والتي سببت أزمةً معيشية في غزة هي الأسوأ منذ خروج الاحتلال منها منتصف التسعينيات، جعلت صانعي القرار في غزة أكثر حرصًا على عدم دخول حربٍ شاملة مع الاحتلال، وتجنّب مواجهةٍ ذات كلفةٍ عالية، في هذه الظروف الاستثنائية، فلا الوضع الداخليّ، ولا الأجواء الإقليمية، ولا الرياح الدولية ستساعدُ غزّة على القتال والصمود.

جاءت ردّة فعل المقاومة على المغامرة الصهيونية مفاجئة، قلبت كلّ الحسابات رأسًا على عقب، وأظهرت جهوزيّةً كبيرة، واستعدادًا أمنيًّا وعسكريًّا عالي المستوى

لعلّ ما سبق كلّه كان مغريًا جدًّا لقيادة العدوّ، لتتجرّأ على غزة، وتشرع في مغامرةٍ غير محسوبة، اختارت لها توقيتًا مناسبًا جدًّا، بعد أيامٍ معدودة من دخول الأموال القطرية إلى القطاع، على شوقٍ وعطشٍ وجوعٍ لم يضرب غزة مثله منذ عقود، فلم تكد غزّة تمضغُ لقمتها الأولى، حتى تسللت قوة خاصّة صهيونية لتضرب ضربةً سريّةً خاطفة، لطمةً في الظلام على خدّ المقاومة، تكونُ مجبرةً على تحسسها في صمت، عاجزةً عن تثبيت التهمة، فضلًا عن الردّ الفوريّ والمناسب.

جاءت ردّة فعل المقاومة على المغامرة الصهيونية مفاجئة، قلبت كلّ الحسابات رأسًا على عقب، وأظهرت جهوزيّةً كبيرة، واستعدادًا أمنيًّا وعسكريًّا عالي المستوى، تجلّى في أداء الشهيد القائد نور بركة ومجموعته، جعلا المجموعة الصهيونية تعودُ مدحورةً تجرّ قتلاها وجرحاها، ناجيةً من احتمال أسرٍ كان يمكن أن يتحوّل لفضيحة القرن للجيش الصهيوني.

خرج العدوّ ببيانٍ هزيلٍ يدّعي أنّ العملية كانت ذات طابع استخباريّ محض، لا هجوميّ بالاغتيال أو الاختطاف، وكأنّ تداعياته كانت مجرّد حادثة، ولعله كان بوسع المقاومة -في ظلّ ظروفها الصعبة- أن تكتفي بإفشال المخطط الصهيونيّ، وعودة الفريق فارًّا على أعقابه بقتلاه ومصابيه، فتردّ ردًا بسيطًا ورمزيًّا، لكنها آثرت أن تردّ الردّ الموجع، بالقصف العنيف، والاستهداف المصوّر للباص العسكريّ بالكورنيت، لتكون رسالةً موقّعةً بدماء الجنود، كاشفةً عن زيف "قوة الردع" الصهيونية، وموضحةً خطر العبث مع غزة، وسوء تقدير من أراد استغلال ظروفها.

هذا ليبرمان يعلن انسحابه من الحكومة الصهيونية، مصرّحًا بانبطاح "إسرائيل" أمام غزة، وحسبُك بها شهادة انتصار للمقاومة في هذه الجولة، ونيشان عزّ لها إذ تهدمُ بيديها العاريتين الفقيرتين حكومات العدوّ، وتقيل وزراءه، بينما يُستقبلون مُعزّزين مكرّمين في عواصمنا الغنيّة. رسالة غزة النّدِّيّة إلى العدوّ ومن خلفه العالم الظالم هي الأولى والأهمّ ربّما، لكنّ  رسائل أخرى يمكن أن تُقرأ بين دخان الصواريخ وألسنة اللهب:

تقولُ غزّة أيضًا للقوى الإقليمية والدولية، للأصدقاء والحلفاء والأعداء: لا أحد يشترينا، ومن يدفعُ لنا لا يملكنا، ولا نعطي هدوءًا ولا تصعيدًا إلا وفق مبادئنا وخطوطنا وسياساتنا وظروفنا
تقولُ غزّة أيضًا للقوى الإقليمية والدولية، للأصدقاء والحلفاء والأعداء: لا أحد يشترينا، ومن يدفعُ لنا لا يملكنا، ولا نعطي هدوءًا ولا تصعيدًا إلا وفق مبادئنا وخطوطنا وسياساتنا وظروفنا
 

ثمة رسالة مهمة، ظهرت من خلال الإعلان عن كلّ خطوةٍ للمقاومة من خلال غرفة العمليات المشتركة، وهي تستهدفُ -برأيي- الداخل أكثر من الخارج، لتقول: إنّ قرار الحرب أو السلم أو التصعيد أو التهدئة هو قرارٌ مشترك، ليس بوسع أحدٍ أن يأخذه وحده، ولا أن يتصرّف فيه وحده، على النحو الذي أثار بلبلةً قبل مدّة يسيرة، فالوحدة قوّة داخليّة قبل أن تكون أمام العدوّ. رسالةٌ أخرى لمحاصري غزّة الإقليميين: غزّةُ تريدُ العيش، وتحبُّ الحياة، وأهلها يرغبون أعظم رغبةٍ في تحسين ظروفهم المعيشية، وتخفيف آثار الحصار الطويل، لكنّ كرامة أهلها، وحقّهم في ردّ الصفعة بمثلها أو أشدّ هو عندهم أهم من الخبز والكهرباء وحقائب الأموال، وواهمٌ من يظنّ أنه يسكتهم بتحصيل شيءٍ من حقوقهم الأساسية هذه.

تقولُ غزّة أيضًا للقوى الإقليمية والدولية، للأصدقاء والحلفاء والأعداء: لا أحد يشترينا، ومن يدفعُ لنا لا يملكنا، ولا نعطي هدوءًا ولا تصعيدًا إلا وفق مبادئنا وخطوطنا وسياساتنا وظروفنا، نحترمُ حلفاءنا، ونحسبُ لأعدائنا، لكننا في النهاية محكومون لأنفسنا، ولقرارنا المستقلّ والمشترك. صواريخ غزّة وضرباتُها الإبداعية عسكريًّا وإعلاميًا، لم تضرب أهدافها على الأرض فقط، بل ضربت بقوّةً أيضًا على الأفواه والأقلام التي زايدت عليها، وخرجت لتقول: "باعوها"، وقبضوا الثمن حقائب دولارات! لم يجفّ بعدُ حبرُ المقالات المشككة، ولا رجع صدى التصريحات المرجفة، حتى قطع ذلك كلّه رصاصات نور الدين الشهيد ورفاقه، ثمّ لهيبُ الكورنيت، وتغريدُ الصواريخ في سماء غزّة الحُرّة. هذه رسائل غزة، تحت النار وفوقها، وثمة ما يُقرأ من رسائلها ولا يُنقل، وثمة ما تخفيه عنّا ولا ندري عنه إلا حين تشاء، وفي عَلَمها الخفاق فوق رؤوس الجنود بالموت الزؤام شاهدٌ ودليل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.