شعار قسم مدونات

"سقف الباص الطاير".. حينما يتحدث كورنيت القسام باللغة التي يفهمها الاحتلال!

blogs نتنياهو

إذا جاز لنا أن نطلق تسمية على المواجهة التي دارت رحاها بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني خلال اليومين الماضيين، فلا نجد أفضل دلالةً من (ثورة الكورنيت)، بوصفه كلمة السر واللغز الذي استطاع تفكيك بعض الطلاسم والرموز المشفرة، وايصال رسالة واضحة فهمها العدو قبل أن يدركها أعوانه الحمقى. فعملية تدمير الباص العسكري الصهيوني كانت وسيلة من أدوات الردع المشروعة لضرب المحتل، إلا أنها كانت الأكثر حضوراً في تهشيم آلة الردع الصهيوني، وضرب المعنوية لقياداته السياسية والعسكرية في مقتل، فلا مناص من التسليم بمعادلة القصف بالقصف والدم بالدم والنار بالنار.

رشقة صواريخ تتلوها رشقة أخرى، وصلية قذائف تليها ثانية، وصافرة إنذار تنادي المزيد، وفي قلب المواجهة، صاروخ كورنيت موجه يضرب حافلة عسكرية صهيونية بدقة على الحدود الشرقية لمدينة غزة؛ فتشتعل فيها النيران، وتلتهم قلوب وأعصاب جيش الهزيمة الباحث عن ترميم صور الصلف العسكري القديم الذي مارسه مع الجيوش العربية. لكن الرسائل التي سبقت تدمير القافلة أكثر عمقاً وايلاماً من رسائل تدمير الحافلة ذاتها؛ لما يحمله مشهد المراقبة الدقيقة لنزول الجنود الصهاينة من الحافلة، وانتظار ابتعاد معظمهم عن دائرة القتل المباشر، ومن ثَمّ دك الباص وتحويله إلى كتلة من اللهب والشظايا المتطايرة.

كانت المقاومة تعلم أن بحوزتها صيداً ثميناً يمكن لها اقتناصه والفتك به، لكنها في الوقت نفسه كانت إدارة المقاومة على يقين أن عملاً كهذا يتجاوز بكثير قواعد اللعبة القائمة، ويقود لا محالة إلى حرب مفتوحة، وهو ما لا يريده الطرفان في الوقت الراهن؛ فالمفاوضات غير المباشرة بين حركة حماس والعدو الصهيوني تكاد تفضي إلى ابرام اتفاق هدنة دائمة تضع نهاية لحصار دام أكثر من أحد عشر عاماً.

رغم أن الصواريخ التي دكت المستعمرات الصهيونية كانت أكثر عنفاً وشراسةً من أي موجة سابقة، ومع ذلك كان التصعيد الصهيوني محسوباً بدقة، ويخشى من سوء تقدير الموقف الميداني

ولا تقف رسالة الكورنيت عند هذا الحد، فالعدو الصهيوني بات مقتنعاً أن المقاومة التي فوتت صيدها هذه المرة قادرة على اقتناص صيدٍ آخر بسهولة، وفي وقت قياسي إن لم يكن في جعبتها بنكٌ من الأهداف التي لا تسمح الظروف الميدانية والسياسية والإقليمية باقتناصها في هذه المرحلة، وترغب بتأجيلها لوقت لاحق يمكن استثماره بشكل دقيق وفاعل.

أراد العدو أن يتهرب من استحقاقات المعركة في أوج بدايتها، وبدأ يشعر أن عرض مشاهد استهداف الحافلة العسكرية يسير على النقيض تماماً من هوس قيادته الأمنية والسياسية على السواء في تسجيل بعض النقاط الميدانية قبل دخول الهدنة الدائمة حيز التنفيذ؛ لتخفيف سيل الانتقادات التي وصلت إلى حد السخرية والتهكم من أداء مؤسسته العسكرية، ولعل هذا ما دفع الصهاينة للتوجه بطلب مباشر لغرفة عمليات المقاومة؛ سيما قادة القسام بعدم نشر فيديو استهداف الحافلة العسكرية خشية على معنويات جنده، وسمعة منظومته العسكرية غير أن هذا الطلب قوبل بالرفض القاطع والإصرار على نشره؛ وهذا ما أغاظ الصهاينة ودفعهم إلى تدمير مبنى فضائية الأقصى وجميع المكاتب التابعة لها بالكامل.

كأي تصعيد سابق، كانت إسرائيل تستشعر أنها فقدت زمام المبادرة، ولم تعد قادرة على تحديد الجدول الزمني للحرب، ولا النتائج التي ستتمخض عنها المعركة إذا ما أقدمت على مغامرة التورط في وحل غزة، والدخول في حرب جديدة. ورغم أن الصواريخ التي دكت المستعمرات الصهيونية كانت أكثر عنفاً وشراسةً من أي موجة سابقة، ومع ذلك كان التصعيد الصهيوني محسوباً بدقة، ويخشى من سوء تقدير الموقف الميداني في ظل شح المعلومات الاستخبارية، وفشل منظومته الأمنية؛ سيما بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وتفكيك الكثير من شبكات العملاء في الآونة الأخيرة.

صحيحٌ أن المعركة الخاطفة هذه تأتي في ظل استعلاء الاستبداد، وسيطرة الصهاينة على العواصم العربية، وهرولة الكثير من الأنظمة الخليجية لركوب قطار التطبيع مع العدو الصهيوني بالمجان، إلا أن دعاء شرفاء أمتنا لم ينقطع وهم يسهرون ليلهم يرقبون وهج السماء وصيحات الصواريخ وزئير القذائف التي أرعدت أرض الأجداد قبل أن يدخل فصل الشتاء بطقوسه الإلهية. فأي شرف أعظم من مقارعة الجلاد! وأي كرامة أنبل من أن تسير فوق تراب وطنك مرفوع الرأس، لا تعرف طريق الانكسار لمستعمر أو متجبر!

كيف لا يكون الأمر كذلك، وقد نجحت المقاومة في إفشال العملية الأمنية الكبيرة للجيش الصهيوني في خانيونس، وأعادت قائد الوحدة الصهيونية المعتدية في أكياس سوداء في الوقت الذي نجح الموساد في الفترة الأخيرة بقتل الشهيد محمود المبحوح في الامارات العربية المتحدة، والشهيد محمد الزواري في قلب تونس، والشهيد فادي البطش في ماليزيا، وعشرات عمليات الاغتيال في لبنان وغيرها من العواصم العربية والعالمية، ثم يعود منفذو عمليات الاغتيال إلى الكيان بسلام، وتفشل دول وحكومات وجيوش في القبض على رجال الموساد أو ملاحقتهم.

ما تخشاه الأنظمة المحيطة حقاً أن غزة أصبحت ليست حاضنة للمقاومة وحسب، وإنما حاضنة لثقافة المقاومة والمجابهة، ومهبط فواد الكثير من الرافضين لمشاريع التطبيع وأوهام السلام الزائف
ما تخشاه الأنظمة المحيطة حقاً أن غزة أصبحت ليست حاضنة للمقاومة وحسب، وإنما حاضنة لثقافة المقاومة والمجابهة، ومهبط فواد الكثير من الرافضين لمشاريع التطبيع وأوهام السلام الزائف
 

لا ينبغي على أبناء الامة أن يشعروا بالعجز والإحباط وبين ظهرانيهم أهل فلسطين وفرسان غزة وأبناء الطائفة المنصورة، وكأن قدر هذه الأمة أن تغسل عار متخاذليها بدماء ومهج مجاهديها؛ فغزة لن تعرف طريق التدجين والتفريخ التي ارتضى بها الكثير من العرب، ولن تقبل بمعادلة بعد اليوم أقل من كسر الحصار الصهيوني الظالم والعيش بحرية وكرامة ولو كلفها ذلك الغالي والنفيس، ولن تسلم سلاحها حتى يلج الجمل في سم الخياط؛ فالكيس من اعتبر، ولا عزاء للمكابرين والمستبدين. لم نكن نهذي عندما قلنا لكم يا سادة أن غزة في هذه المرحلة تدافع عن كرامة مليار وثمانمائة مليون مسلم في ربوع المسكونة، وتُحطم بصاروخ الكورنيت البسيط مقارنة بصواريخ وقنابل العدو الفراغية والارتجاجية جبروت رابع جيش في العالم!

 

بعد كل هذا العطاء السخي، هل تستحق مقاومتنا الباسلة هذا التآمر الذي تحاك خيوطه في عواصم العرب قبل تل ابيب وواشنطن؟ ألا نخجل من أنفسنا عندما نسل سيوفنا المسمومة في وجه ثوار الكورنيت والعبوات المتفجرة أم أن البعض منا يعمل بمقتضى الأثر القائل: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)؟! هل جلبت المقاومة على شعبنا الويلات حقاً، ولا بد من وقف هذه المغامرات الهوجاء والمقامرات الرعناء التي لن تحقق لأهل غزة سوى الدمار؟!

ما تخشاه الأنظمة المحيطة حقاً أن غزة أصبحت ليست حاضنة للمقاومة وحسب، وإنما حاضنة لثقافة المقاومة والمجابهة، ومهبط فواد الكثير من الرافضين لمشاريع التطبيع وأوهام السلام الزائف وهو ما تعتبره هذه الأنظمة البالية خطراً داهماً على وجودها ومصيرها؛ لا سيما أن الكثير من هذه الأنظمة جاء إلى سدة الحكم بشرعية الانقلابات العسكرية لا بشرعية الصناديق. لقد أضحت ملحمة غزة اليوم مشروعاً حضارياً وانسانياً نبيلاً تستلهم منه الأمم والشعوب حكمتها قبل أن تكون خياراً عسكرياً ونضالياً لاستعادة الأرض والحقوق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.