شعار قسم مدونات

انحطاط الخطاب السياسي.. تقويض لبناء الدولة وفتق للنسيج الاجتماعي

blogs خطاب

يُلاحظ أنه بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وما تبعها من صراع عنيف بين قوى الثورة من جهة والنظام المناوئ للثورة أو ما يسمى بالدولة العميقة من جهة، تبنت وسائل الإعلام الرسمي خطاباً سياسياً اتسم في الغالب بمستوى من الانحطاط الأخلاقي غير المسبوق في تاريخ المنطقة العربية. انتشر الكذب والتلفيق، فضلاً عن كيل الشتائم وسب الخصوم بلغة بذيئة يستحي المرء أن يسمعها وهو يشاهد التلفاز مع أسرته! سنسلط الضوء في هذه المدونة على أبرز تجليات انحطاط الخطاب السياسي وأسبابه وآثاره المجتمعية ودوره في تقويض بناء دولة المؤسسات، ومن ثم نتطرق إلى نموذج الخطاب السياسي للدول التي تحكم بإرادة الشعب.

 

الخطاب السياسي الرسمي هو الخطاب الذي يعبر عن منطلقات النظام الحاكم ويتبلور في أشكال مختلفة عبر المؤسسات الإعلامية في الدول التي قاومت الربيع العربي. وباعتبار غياب الإعلام الحر فإن الذي يصدر من هذه الدول لابد أن يعبر بالضرورة عن الخط السياسي العام للنظام الحاكم. ونظراً لغياب أجندة وطنية خالصة فإن الخطاب الرسمي يتبني أساساً أجندات "الغير" ثم مصالح النخب العسكرية والسياسية والعائلية الحاكمة. ينزع هذا الخطاب دائماً إلى مدح الحاكم وتضخيم "إنجازاته" ورفعه فوق مكانة البشر العاديين. بمعنى أن الخطاب السياسي موجه كله نحو تضخيم الحاكم ونخبته و"الشركاء".

 

كان هناك قبل الربيع العربي هامش ضئيل من الحرية التي مكنت المهنيين من طرح بعض القضايا من منظور مهني بحت لقي قبولاً لدى الجمهور، ولكن شهدت فترة ما بعد الربيع العربي توحشاً غير معتاد من النظام العربي القديم أخفت معه أي صوت مهني لا يصفق بما فيه الكفاية للحاكم. ومن هنا كانت تجليات الخطاب الرسمي على النحو التالي:

 

– أصبح إطراء الحاكم ومدحه من أبرز ملامح الخطاب السياسي شمل حتى مدح المسؤولين الحكوميين، وأصبح من لا يمدح بما فيه الكفاية عرضة للاعتقال والتغييب وراء القضبان. لاحظ اننا لا نتكلم عن الصوت المعارض أو الرأي الآخر الذي أصبح استئصاله والتخلص منه غاية الأجهزة الأمنية.

 

يتسم الخطاب الرسمي في المجتمعات التي تسود فيها الإرادة الشعبية بأنه يمثل مؤسسات الدولة وليس شخص الحاكم، ومن هنا تنتفي شخصية الحاكم في الخطاب الرسمي إلا من قبيل الإشارة إليه كجزء من جهاز الدولة

– أصبح ذم "الآخر" وشيطنته وتلفيق التهم ضده من ضرورات الخطاب الرسمي، ولا بأس في استخدام ألفاظ بذسئة خادشة للحياء ومتجاوزة للقيم والأخلاق، علماً بأن هذا "الآخر" جريمته الوحيدة أنه يحظى بتأييد شعبي أو يؤمن بالبديل الديمقراطي أو مناصر للتحول الديمقراطي، أو لا يصفق للطغيان بما فيه الكفاية.

 

– أصبحت المنابر الإعلامية في الدولة أبواقاً للكذب البواح، تبث سموم الكراهية وانتهاك الأعراض والتنكيل بالخصوم. ولأول مرة نرى الدولة تتصرف تصرف عصابة المافيا متجاوزة القانون والأعراف المجتمعية.

 

– خلت المجالس من الفكر والثقافة تماماً وأصبحت على كل المستويات عبارة عن حلقات للمهاترات والتنابز بالألقاب والنميمة والخوض في أعراض الناس.

 

لذلك ليس غريباً أن نرى الكذب البواح وتزييف التاريخ، لا أقول التاريخ البعيد في زمن العصور البائدة، وإنما التاريخ الذي نعيشه بكامل قوانا العقلية والبدنية يُزيف أمامنا جهاراً نهاراً. فيتحول الأبطال إلى خونة والخونة الذين باعوا البلاد والعباد إلى أبطال. اتسم الخطاب الرسمي بالكذب والنفاق والتدليس، وفوق ذلك كله، بالكراهية والتحريض على القتل في القنوات الرسمية!

 

لقد انتفت الحيادية النسبية المعهودة في الشخص المحترف لمهنة الإعلام ليصبح رجل الأمن المتقمص لشخصية "الصحفي" معتلياً المنبر الإعلامي وينبح لساعات يبث سمومه في المجتمع باسم الإعلام، فيسب هذا ويسحب حق المواطنة من هذا!

 

النتيجة الطبيعية لهذا الخطاب السياسي الرسمي المنحط هي ما نراه من جرائم وانحطاط أخلاقي في كل المستويات. أصبحنا نسمع بجرائم غريبة على مجتمعاتنا، كان المرء يستحي أن يحكي عنها حتى لو حصلت في مجتمعات بعيدة. إن الفتق الذي أصاب النسيج المجتمعي بفعل الخطاب الرسمي البائس سيكون عصياً على الرتق لعقود بعد زوال أنظمة الظلم والاستبداد. في مصر مثلاً، باعتبار النظام المصري مثالاً لنظام مفروض على إرادة الشعب، المصريون معروفون بالنكتة والمرح، وحتى عندما يتشاجر شخصان يتبادلان بعض الشتائم وبعد لحظات يبوس بعضهما البعض وينصرفان! اليوم أصبح الوضع مختلف تماماً، إذ لم يصبح القتل والإخفاء القسري شائعاً فحسب وإنما قد يبلّغ الصديق عن صديقه أو الأم عن ابنها فضلاً عن وشاية الجيران بجيرانهم لرجال الأمن!

 

لقد انفضح الخطاب السياسي الرسمي وتعرى تماماً في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ورأينا مستوى التخبط وفقدان البوصلة. وكانت النتيجة فضيحة مدوية في كل وسائل الإعلام الرسمي المناصر لأنظمة الاستبداد، إذ قال المحللون كلاماً في بداية الحادثة عند نفى الخطاب الرسمي وقوع الحادث أصلاً، فقالوا كلاماً مديناً لدولة قطر مثلاً ولقناة الجزيرة، وعندما اعترف الخطاب الرسمي بوقع الحدث انقلب ما قاله هؤلاء المحللون بالأمس إدانة صريحة لهم وللسلطات المتهمة بجريمة القتل.

 

لقد كان لهذا الخطاب السياسي الرسمي البائس أثر سيء على سمعة العالم العربي عند الشعوب الأخرى. فنحن في عالم أصبح قرية صغيرة يصعب إخفاء ما يحدث في أي طرف من أطرافها عن أطرافها الأخرى. وبما أن النظام العربي لا يزال مستمسكاً بعقليته التقليدية في خطابه الرسمي أصبح منظره قبيحاً في العالم ومثارة للسخرية والتندر.

 

الخطاب السياسي الرسمي للدولة العربية فاقد للبوصلة تماماً ويتسم بالتخبط بعد أن تجرد من كل القيود الأخلاقية والأعراف المجتمعية
الخطاب السياسي الرسمي للدولة العربية فاقد للبوصلة تماماً ويتسم بالتخبط بعد أن تجرد من كل القيود الأخلاقية والأعراف المجتمعية
 

أما في المجتمعات الديمقراطية والناضجة سياسياً، فنجد أن الخطاب السياسي الرسمي ينسجم مع توجه الدولة ومشروعها الوطني. ونقصد بالمشروع الوطني الرؤية القائمة على أساس المواطن والتي تسعى الدولة لتحقيقها خلال جداول زمنية محددة، سعياً لتحقيق رفاهية المواطن، بعد الموافقة عليها من قبل الأجهزة التشريعية الممثلة للشعب وبتنفيذ الجهاز التنفيذي للدولة عبر مؤسساته المختلفة، وإشراف الجهاز القضائي، وإشراك المجتمع المدني بكل تياراته. بعد ذلك يأتي دور الإعلام ليبلور خطاباً سياسياً رسمياً يوجه المجتمع نحو المشروع الوطني ويمثل السلطة الرابعة بعد السلطة التشريعية الممثلة في البرلمان والسلطة التنفيذية الممثلة في الوزارات والسلطة القضائية. هنا يتسم الإعلام بالانضباط سواءً أكان في عكسه للخطاب الرسمي للدولة أو في الخطاب الناقد لأداء الدولة. لأن الهدف في نهاية المطاف هو المشروع الوطني وهو رفاهية المواطن.

 

الخطاب السياسي في المجتمعات الديمقراطية يتسم بالشفافية ويستوعب الرأي الآخر. ومن خلال الرأي الآخر تتبين العيوب ونقاط الضعف ومن ثم تقوم الجهة المعنية بالمعالجة اللازمة في الوقت المناسب. ومن هنا فإن الدول الديمقراطية تخصص ميزانيات مالية خاصة للمعارضة السياسية حتى لا تنزوي أو ترتمي في أحضان أعداء الوطن، فضلاً عن مساعدتها على أن يكون خطابها السياسي يمثل الرأي الآخر البنّاء. هذا في الوقت الذي يضيق النظام العربي ذرعاً بالمعارضة السياسية وإجبارها على الاستعانة بالجهات الأجنبية المعادية.

يتسم الخطاب الرسمي في المجتمعات التي تسود فيها الإرادة الشعبية أيضاً بأنه يمثل مؤسسات الدولة وليس شخص الحاكم، ومن هنا تنتفي شخصية الحاكم في الخطاب الرسمي إلا من قبيل الإشارة إليه كجزء من جهاز الدولة ولا يحظى باحتفاء خاص. لذلك يستغرب الناس في هذه المجتمعات، بل ويسخرون عندما يبالغ الخطاب السياسي الرسمي العربي في مدح الحاكم!

 

خلاصة القول هي أن الخطاب السياسي الرسمي للدولة العربية فاقد للبوصلة تماماً ويتسم بالتخبط بعد أن تجرد من كل القيود الأخلاقية والأعراف المجتمعية، وستمتد آثاره لأجيال من حيث مساهمته في فتق النسيج الاجتماعي وتقويض فرص بناء دولة المؤسسات. اجتماعياً، ساهم الخطاب السياسي في بث الفرقة والشتات بين أبناء الوطن الواحد، فقسمهم على أسس سياسية وعرقية ودينية وجهوية فأصبح الناس ينظرون إلى بعضهم من المنظور الذي وضعهم فيه هذا الخطاب السياسي الرسمي. وأما من حيث بناء الدولة الراشدة، دولة المؤسسات، فلن يكون ذلك سهلاً طالما ظلت عقلية التصنيف هذه سائدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.