شعار قسم مدونات

مكة تبك وبيتها عتيق

blogs الحج

اختص الله مكة ببيته الحرام، وجعله عتيقا، ومن معاني العتيق التي قد تخفى، أن الكعبة ومكة بريئتان من السياسة وشؤونها، فلن يفلح من أدخل الشأن السياسي فيهما، خاصة حين يكون فيه محادة لله ورسوله، وإلحاد في الحرم، ومن أعظم صور الإلحاد صد الناس عنه كما فعل القرامطة وغيرهم، ومن أسماء مكة بكة لأنها تبك الظلمة.

  

وباستعراض التاريخ نلاحظ أن أي بيعة عامة في مكة لم تنته بصاحبها إلى ما يتمنى من استقرار ابتداء من ابن الزبير، ومرورا بالأمين والمأمون والمؤتمن، فالأول قتل وهو أول خليفة عباسي يقتل، والثاني أبتلي بالثورات والمشكلات وحجز لنفسه مكانة سيئة ضمن الظلمة، والثالث لم يحكم أصلًا، والأعجب من ذلك أن الذي خلف المأمون هو المعتصم، وهو لم يذكر في ميثاق العهد المأخوذ بمكة، والمعلق على أستار الكعبة، فكان الحكم له، وهزم الثوار، وجاء من بعده تسعة وعشرون خليفة عباسيا ينتسبون إليه.

 

تمنع الحكومة وصول بعض المسلمين لمكة، وتعتقل بعضهم، بسبب مواقفهم من السعودية أو من دولهم الحليفة للمملكة، وبيت الله آمن مؤمن من قصده، وواجب على الحكومة أن تمنح التأشيرة المجانية لمن طلبها، وتحميه من الاعتقال لصالح حكومته

وفي عصرنا الحديث نادى الشريف حسين بنفسه زعيما بعد أن خرج على الدولة العثمانية، فلم يقبل به المسلمون، وخانته بريطانيا، وعاش بقية عمره طريدا، منبوزا بالغدر، ولم يهنأ الملك سعود بالحكم حيث أخذت له البيعة بولاية العهد في مكة، وكان أول ملك في الدولة السعودية الثالثة يعزل، ويطمس تاريخه أو يكاد.

  

ولا تقف الملاحظة عند هذا الأمر، فجل الشئون السياسية المبرمة في مكة تبوء بالفشل، فحتى صلح الحديبية نقضته قريش بعد أقل من ثلاثة أعوام مع أن الطرف الآخر هو رسول الله وسيد الخلق، ومن الأمثلة المعاصرة الاتفاق بين حماس وفتح، وصلح الأفغان، وهيئة البيعة السعودية، ومؤتمرات القمم الإسلامية.

   

وحتى المهدي وهو الأمير الصالح المصلح الذي تبايعه الأمة عند الكعبة، ويملأ الدنيا عدلًا، سيقضي فترة من حكمه في جهاد وحروب، ثم لن يتجاوز عهده المبارك سبع سنوات، مع أنه من نسل رسول الله، ومبشر به في حديث نبوي، ومبايع في مكة، ويصلي خلفه المسيح عليه السلام الذي يتفانى حكامنا في إرضاء من يزعمون أنهم أتباعه.

   

وبناء عليه؛ فلا أتوقع أن ينعم الأمير محمد بن سلمان بما كان يأمل به حين بويع في مكة ليلة السابع والعشرين من رمضان، بجوار الحرم المقدس، ولله في تدبيره حكمة وشؤون، فقد أخفى هذه الملمح عن الملك سلمان وابنه المفضل، مع أن الملك سلمان بعد وفاة الأمير نايف، والمناداة به وليا للعهد، طار من جدة إلى الرياض ليأخذ البيعة، ولم يفعلها في مكة، ولا أدري ما الذي جعله يأخذ البيعة لابنه في مكة وهو الذي تحاشاها لنفسه؟!


ولو كان في البيعة بمكة وعند الحرم مزية لفعلها الخلفاء الراشدون، ولأتخذ الرسول عليه السلام منها عاصمة لدولته بدلا من المدينة، لكن الفقه الكبير الذي تميز به هؤلاء جعلهم يوقنون أن التأثير في العمل وليس في المكان، ولم يخطر للنبي المكوث في مكة بعد الفتح وحنين وحجة الوداع، ولم يفعلها الخلفاء الذي اتخذوا من المدينة عاصمة لدولتهم، ولم يذهب إليها علي بن أبي طالب لما اضطر لترك المدينة.

 

وإكمالا للفائدة، فمما يتصل بمكة، أن الحج عبادة متاحة لكل مسلم، ومن عسرها وضيق على الناس الوصول إلى الحرم، فلن يسلم له أمر مكة وشأنها، ولا يعني هذا الانجرار لدعوات تدويل الحرمين، ولكن لا يصح أن تكون مكة ألعوبة سياسية تمنح لهذا، ويمنع منها ذاك لأغراض سياسية.

   

والغريب أن الحكومة التي تفعل ذلك، تتسامح في مهرجانات الجنادرية وعكاظ، وتستضيف من يوسعها شتما، بينما تمنع وصول بعض المسلمين لمكة، وتعتقل بعضهم، بسبب مواقفهم من السعودية أو من دولهم الحليفة للمملكة، وبيت الله آمن مؤمن من قصده، وواجب على الحكومة أن تمنح التأشيرة المجانية لمن طلبها، وتحميه من الاعتقال لصالح حكومته ولو كان بيننا وبينها معاهدة لتسليم المطلوبين.

   

وإضافة لذلك، فلا يليق أن يكون منبر حرم مكة، ومحراب مسجدها، تحت تصرف من يدبج الخطب الرنانة المسجوعة، لنصرة الباطل، وتلميع المفسد، أو يتلو من الآيات في الصلوات ما يلبس به على عوام الناس، حتى أنه قرأ آيات بيعة الرضوان في ليلة بيعة محمد بن سلمان وما أعظم الفرق، وأشنع الخطأ، وبالمقابل يغفل هذا المتفاصح المتعسف عن قضايا المسلمين وثوابت دينهم في خطبه واختياراته.

   

وإنا لننتظر من الله فرجا، يديم فيه الأمن لبيته الحرام وأهله ومجاوريه، ويخلصه من القبضة الآثمة إلى حكم عادل رشيد، ويحميه من عبث الكهان وسجعهم المقيت، ويجعله في أيد أقوام قلوبهم عامرة بالإيمان واليقين، لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يقدمون على قول أو فعل إلا فيما ما يرضي ربنا سبحانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.