شعار قسم مدونات

"وخلق الإنسان ضعيفًا".. كيف يكون الضعف هو القوة بذاتها؟!

blogs دعاء

عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات".

في هذا الحديث النبوي الذي يحوي صحابيين، أحدهما هو خير هذه الأمة بعد نبيّها، نرى تجسيدًا عيانًا للضعف البشري الفطري الطبيعي الذي خلقنا الله به لنشعر ببشريتنا وعبوديتنا، ونرى معالجة نبوية مثمرة، بالإعلان غير المباشر عن أن تلك السمة، سمة بشرية أصيلة. إن الإنسان مخلوق أضعف مما يتخيل، ولذلك ترى انحرافاته التي لا تنتهي عندما لا يستنير بنور العبودية، فتأتي تلك الانحرافات على أشكال وألوان، تارة في العقل، وأخرى في الفعل، ويبقى هو هو، جاهلاً ضعيفًا ظلومًا.

إن الله تعالى وصف الإنسان بعدة أوصاف تدل على ذلك الضعف في كتابه العزيز، حيث وصفه مرة بقوله: "إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" وأخرى بقوله: "وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا" وثالثةً بقوله: "وَكَانَ الْإِنْسَان كَفُورًا" ورابعةً بقوله: "وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا" وخامسةً بقوله: "وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" وسادسةً بقوله: "إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ" وغيرها وغيرها من تلك الآيات التي تنبه المسلم منّا دائما وأبدًا بأنه ضعيف لوحده، وضعفه ذلك يتجلى في تلك الصور المذكورة في القرآن، وأنه ما لم يسعَ للحاق بالهدى الإلهي، هالكٌ مرات ومرات قبل الهلاك الحقيقي.

استيعاب الإنسان لضعفه، والتوفيق بين أنه بذلك الضعف، وأنه الكائن الأقوى في هذا الكون، وأن رب العالمين أعطاه تكريمًا من عنده، كل ذلك يجعل الطريق إلى الآخرة أقل وعورة وأكثر استقامة

إن مما ينتجه ذلك الضعف: الفتور في العبادات (وهو كالمذكور في الحديث)، وهو ما لم يستغربه النبي صلى الله عليه وسلم حتى على قامة مثل الصدّيق -رضي الله عنه-، إنه يتسبب بنسيان الموت أيضًا، حيث يعرض أمامك اللذات المحرمة واحدة تلو الأخرى تاركًا إياك سارحًا في تلك الأشياء، ناسيًا أن ملك الموت قد يكون ببابك آتيًا ليكتب الجملة القائلة: (مات وهو …)، إنه الضعف ذاته الذي يصوّر لك الحياة سوداء، ويضعك في دائرة العدمية، هو ذاته الذي يجعلك تحزن لأن الأطفال في المكان الفلاني يموتون، والناس في المكان الفلاني لا يجدون مطعمًا ولا مأوى، إنه الفخ الذي كل ما هربت منه عدت إليه، وكل ما تجاهلته تركك في دركات التخبط والشتات

إن وضع ذلك الضعف في سياقه الطبيعي، سياق (العبد/الإله) يجعل مآلات ذلك الضعف مفتاح النور لحياتك، إنه الضعف الذي يدفعك للالتجاء إلى ربك بعد معصيته بثوانٍ، لأنك تدرك أنه قادر على أن لا يقبل توبتك -حاشاه وهو الكريم أن يرد صادقًا- لكنّه كرمًا منه وإحسانا منه جل جلاله لا يردك خائبًا، وهو الذي يعطيك الدافع في الحياة وغيرك يموت كل يوم، حيث تعلم أنك تريد المدد من الأعظم والأقوى، وهو الذي يرسم لك الصورة الكبرى للحياة بما فيها، حيث ترى التدافع السنني "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" مدركًا أنه مفتاح الحياة وليس مغلاقها.

إن استيعاب الإنسان لضعفه، ورؤيته لمكانه في الكون والتوفيق بين أنه بذلك الضعف، وأنه الكائن الأقوى في هذا الكون، وأن رب العالمين أعطاه تكريمًا من عنده، كل ذلك يجعل الطريق إلى الآخرة أقل وعورة وأكثر استقامة، إنه الذي يعطيك الثبات كلما ترنّحت، والعزيمة كلما سقطت، إنه الذي يعطيك حقك الطبيعي في أن تكون ضعيفًا وتتقوى بالعون الإلهي، لا أن تدّعي كمالاً ثم لا تلبث أن ترى نفسك تائهًا بين قوانين الحياة وسننها، إنها الضعف المقوّي، بل إن ذلك الضعف هو القوة بذاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.