شعار قسم مدونات

أريك فروم.. الملحد الذي يؤمن بالله

blogs إيريك فروم

كان أول الكتب التي قرأتها لهذا الكاتب الألماني الأصل الأمريكي المعاش هو كتابه عن "الخوف من الحرية"، وهو كتاب معروف وقد ترجم لأغلب اللغات العالمية. كان الدافع لقراءة هذا الكتاب هي لحظة خاصة عشتها بعد انكسار الربيع العربي، وتمدد فقرات من اليأس القاتم على كل صفحات الأمل التي كانت تنقشها ميادين الحرية.

 

لا تطفئوا الأنوار

لماذا فشلنا في مشروع التحرر العربي؟ ولماذا نجح الاستبداد عائداً في موجة عاتية، وأشد موجات القمع تلك التي تتأسس برضا شعبي. عادة الناس في مثل هذه الظروف أن يقدموا إجابتين: الأولى عدم نضج الشعوب للتحول إلى الديمقراطية وإدراكهم لأهميتها، والثانية الوقوع تحت إغواء الدعايات والمؤامرات للزعماء المجانين.

 

أريك فروم يقدم إجابة مختلفة من خلال رصد سياق مختلف، صحيح ليس متماثلا معنا بالمعنى التاريخي، لكنه قريب منا في المعنى الإنساني، ومن المهم التعلم من تجارب الثقافات كيف ترصد وتحلل أخطاءها.

 

والكاتب نذر نفسه للدراسات النقدية العميقة للحضارة الغربية، وكذلك للأمراض والتشوهات التي ولدت معها. ومدرسة فروم ترى أنه من الخطأ حصر علم النفس في إطار الفرد فقط، حيث أسس لنهج يرى أن التحليل النفسي ينطبق على الظواهر الاجتماعية والسياسية، وأهميته أنه يجعل علم النفس أداة للحفاظ على النور والتسامي الذي بداخل الإنسان، بعد أن تم تحويله إلى كتلة من الطاقة والظواهر البيولوجية.

   undefined

   

يرى فروم أن الحرية قضية مرتبطة بالتطور الاجتماعي والسياسي ولا يمكن الجدل في ذلك، ولكن هناك غفلة عن أساسها السيكولوجي، وهذا الأساس له صلة بتاريخ الحداثة الغربية.

 

 يصل مفكرنا إلى بعض الخلاصات المهمة التي صاحبت الحداثة والإصلاح، ومنها تلك الثنائية حيث ظهر التنوير ومعه الشوق إلى الحرية وكذلك الشغف إلى التحرر منها، وأن للحداثة علامات صحة من تحرر وديمقراطية وعقلانية، وأخرى تشير إلى أمراض عضالية؛ مثل النازية والعنصرية والقوميات المتطرفة التي كانت سببا لحروب وتجارب الاستعمار واستعباد الشعوب، ونشوب أسوأ نزاعات القمع والشراسة على مر التاريخ.

 

تحرر منقوص

ولد فروم عام 1900م في ألمانيا، وعاصر أجواء الحروب العالمية الطاحنة الأولى والثانية، أثاره بشكل لافت كيف أن الألمان، الذين قاتل أباءهم من أجل الحرية، يقاتلون من أجل الهروب منها. والإيطاليون، الذين ولد عندهم الفرد وظهرت لديهم المدينة، لبوا في لحظة ما نداء زعيم معتوه يريد أن ينقل أساطيرهم إلى المريخ.

 

لا أحد يمكن أن يزعم أن تلك الشعوب ليس لها إدراك للديمقراطية وأهميتها، أو أنهم ينقصهم الوعي والفلسفة والأدب والفن، فما الذي حدث؟ قدم الرجل إجابة فلسفية نفسية عميقة إنه: الهروب من الحرية.

 

الخروج من الجنة

استعار فروم تراث قصة الخلق الكتابي، وكانت استعارة إبداعية، حيث مثل للفرد قبل عصور الإصلاح، بالجنة التي وجد فيها آدم، حيث كان الفرد متسقا مع عالمه، الدين والقبيلة والكنيسة والإقطاع، ويعيش عالما من الإجابات البسيطة. وقال إن الحداثة الغربية نجحت في تحرير الفرد من قيوده الأولى الدينية والاجتماعية، وأصبح فردا عاريا، أكثر حرية، لكن أكثر وحدة وانعزلا.

 

وهنا يقدم فروم معنى انقلابيا لمفهوم الحرية الجديد، الذي لم يولد بالمعنى الحديث إلا مع عصور الأنوار، لأن معنى تلك الحرية ارتبط بالفردانية، والتخلص من العالم القديم والروابط القبلية والدينية، وهذا لا يعني أن الإنسان القديم لم يعرف الحرية؛ ولكن لم تكن تعني له هذا التخلي عن كل انتماءات الذات.

 

كان الإنسان القديم يعيش أياما صعبة، ولكن لم يكن مغتربا أو وحيدا، لم يكن صاحب عقل، لكن كان لديه يقين. كان النظام القديم يوفر له البدائل الرحمية والتكافلية التي ترفع عنه المعاناة، وتعينه على تحمل هذه الصعاب، وهنا نتذكر آليات التوبة والغفران التي جات بها الأديان. يرى فروم أن شراء رسالة الغفران التي شن عليها لوثر نقده الشديد، والذي كان يحصل عليها فلاح العصور الوسطى من رسول البابا، كانت كفيلة بتخفيف أعباء الإنسان، وتزيح عنه الشعور بالعقاب الأبدي. 

 

وبقدر ما قد تتناقض هذه الفكرة مع فكرة فاعلية الفرد وخلاصه، لكن لا يمكن أن ننسى أنها تحتوي على روح من الأمل والأمان، هذا الكلام يذكرني بقصة الرجل الذي قتل 99 نفسا: لماذا أكمل الجريمة؟ ولماذا توقف؟

 

الهروب الكبير

لم يكن فروم ضد التحرر والإصلاح، ولكن كان ضد أمراضها من الاغتراب والوحدة كونها أثراً من آثار التحرر المنقوص؛ لأن تلك المشاكل هي التي تهيئ المجتمعات للهروب من الحرية، حيث تنمو الحاجة لدى الإنسان المغترب القلِق لأن يرتبط بأي ارتباط يعوض فيه عالمه القديم، الحنين إلى الجنة كما يقول مولانا جلال الدين.

   undefined

  

وحتى يصل الإنسان إلى هذه الحالة لا بد أن يتخلص من الحرية والفردانية والاستقلال، وأن يلقي بتلك الأعباء -الحرية عبء- في بئر سحيق. وكان هذا السبب في نشأة الروابط الجديدة، التي تُسحق فيها الفردانية والعقلانية، وهو لديه استعداد لقبول ذلك طالما يحصل على اليقين والعاطفة الجياشة، وتحقق له الرغبة في الخضوع والهيمنة.

 

قرر أن يذهب إلى العبودية، حن إلى أرض الخوف وهرب إلى قيد جديد يكون بديلا عن روابطه الأولى التي كف عنها. لكن الروابط الجديدة، مثل النازية والفاشية والحركات العنصرية والقوميات المتطرفة، التي يتوحد معها وتستدعي استقراره القديم، ليست جزءا من عالمه الذي ولّى. إنه يستخدم الإيمان القديم بالله والكنيسة بشكل اغترابي ليتوجه به إلى الزعيم أو الحزب أو الدولة.

 

ارتكاسة التوحيد

يرى فروم أن الانسان استدعى إيمانه القديم حتى يهرب من الحرية، حتى يحل أزمته المعاصرة، ولكن ألقى بهذا الإيمان أمام أشياء ليست من جنس هذا الإيمان، لتعود الوثنية، في صورة الإيمان بزعيم أو انتماء لفكرة عنصرية.

 

عاد الوثن بعد أن قال بعضهم بموت الله. ويعرف فروم الوثنية أنها ليست الإيمان بالآلهة المتعددة.. ولكن عبادة ما نصنع.. أشياء على الطريق كالحجارة نهبها كل أحلامنا وعواطفنا وقوانا وماهيتنا.. ثم نعبدها بعد أن نكون قد أفلسنا تماما من أي معنى أو قيمة داخلية.. كلما أصبح الوثن قويا أصبح المتعبد فقيرا.. فناء كفناء الصوفية.

 

لا تزال شعوبنا تتعرى وتهتف وتتظاهر من أجل بطل أو منقذ، تلقي عليه بكل رصيدها من حرية وكرامة.. حتى تصبح أمامه لا شيء.. حينما تخرج أمة بأسرها من أجل رجل ما تستعطفه ليحكمها.. تصبح الأمة كلها عارية.. بعد أن خلعت على وثنها كل أرديتها.. أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.