شعار قسم مدونات

مزقوا صحف العار وأعيدوا النازحين

blogs العراق

السيول والفيضانات والأوبئة وقرب حرارة الشمس من الغليان وربما رمضان والأعياد، أشياء قد تذكر الحكومة والأحزاب والمجتمع بشكل عام بالنازحين واللاجئين في المخيمات، كدت لا أصدق وأنا أقرأ تغريدة لرئيس الجمهورية في تويتر بعد أن غمرت مياه السيول مخيمات النازحين يتحدث فيها عن تعزية لذوي الضحايا الذين قتلتهم السيول، ومن بينهم أطفال وقال فيها أيضاً إنَّ هذا الأمر يجسد معاناة طالت بلد الخير!

 

هنا سارعتُ لإعادة نشر ما غرد به الرئيس قبل أن أعود لأكمل ما كتب، حيث وصف ما جرى بالحادث المؤلم! وأنه يؤكد على ضرورة الإعمار والخدمات وعودة النازحين، وبعد أن نفد أدرينالين نشوة تذكر مسؤول حكومي للنازحين وأطفالهم، وهي لم تَدُمْ طويلا، تبيَّنَ لي أن الأمر لم يكن حادثاً بعد أن تذكرت تكرار غرقِ مناطق الشرقاط شمالي محافظة صلاح الدين في كل عام من فصل الشتاء، بسبب عدم وجود سدود تستثمر ارتفاعَ منسوبِ مياه نهر دجلة، وعدم وجود خطة لإدارة ملف المياه، خصوصاً أن البلاد تشهد جفافاً في نهري دجلة والفرات خلال فصل الصيف.

 

لكن هذا العام وهو يبدو عام السيول والفيضانات غمرت المياه قرى في الشرقاط وقتلت أطفالاً ونساء، بينما هجر أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وكل ذلك دون علم الأنواء الجوية أو الجهات الحكومية التي لم تحذر الأهالي وتأخرت عن نجدتهم بعد أن أطلقوا نداءات استغاثة في وقت متأخر من الليل لكنَّ النجدة لم تصلهم حتى الصباح!

 

في ديالى شرقي العراق قبل ذلك اجتاحت مياه السيول القادمة من إيران العديد من القرى ودمرت كلَّ ما مرت عليه، وحاصرت عدداً من سكان تلك القرى تمكنَ طيران الجيش من إنقاذهم، وفِي ذي قار وميسان وواسط أيضاً وصلتِ السيول في عدد من تلك المناطق إلى منازل العائلات الآمنة، ودمَّرتها، كما وتركت تلك السيول خلفَها قتلى وجرحى.

 

أكثر ما أحزنني في قضية السيول والفيضانات هذه أمران:

الدولة استأمنت شخصاً لا يهمه من يموت أو من يتضرر، كل ما يهمه سلامة موقفه الإداري، وأن كل شيء يسير على ما يرام، لكن في الحقيقة كل شيء سيئٌ وسيئٌ جداً

الأول: هو أن من تضرروا سيضطرون لبدء حياتهم من الصفر، ومعظمهم من العائلات الفقيرة جداً فمن تضرروا جراء فيضان نهر دجلة قبل سنوات لم يتم تعويضهم حتى الآن عن الأضرار التي أصابتهم وأصابت محاصيلهم، والأمر بلا شك سينطبق على هؤلاء.

والأمر الآخر: متعلق بالنازحين، حيث اجتاحت مياه الأمطار والسيول عدداً من مخيمات النازحين جنوب الموصل ودمرت كل خزين الطعام والفراش والملابس وكل شيء، وتركت خلفها ضحايا، أي أنَّ هناك من قتل وأصيب. لكن مدير الهجرة في محافظة نينوى يقول إنه لا وجود لأي ضحايا في المخيم، وإنَّ وسائل الإعلام تكذب على الرغم من أنَّ من ذكر وجودَ ضحايا في المخيمات هو رئيس الجمهورية برهم صالح، في المكان ذاته الذي يقف فيه مسؤول هجرة نينوى كان يقف بجواره المسؤول المحلي للمكان الذي توجد فيه المخيمات، وهو بمنصب قائممقام أي المسؤول الأعلى للوحدة الإدارية "القضاء" التابع لمحافظة نينوى، وأكد هذا المسؤول مقتل اثنين من النازحين وتدمير أكثر من ١٥٠٠ خيمة وتضرر كل شيء، كما وذكر أن القرى القريبة من المخيم تعرضت لأضرار كبيرة أيضاً.

 

المُحزِن أن الدولة استأمنت شخصاً لا يهمه من يموت أو من يتضرر، كل ما يهمه سلامة موقفه الإداري، وأن كل شيء يسير على ما يرام، لكن في الحقيقة كل شيء سيئٌ وسيئٌ جداً، وأنَّ هذا المسؤول غيرَ المسؤول نفى موتَ أحد، وهم ماتوا بالفعل، فكيف كان ومازال يدير أمور النازحين وهم في حالٍ ضعيفٍ يُرثى له؟

 

في آخر إحصائية وردت في تقريرٍ للهجرة الدولية أكدت فيها أن النازحين في العراق الذين لم يعودوا إلى مناطقهم وبقوا في المخيمات يبلغ عددهم مليوناً ومئة وسبعة وثمانين ألف مواطن لم يعودوا لأسباب عدة، من بينها الوضع الأمني وتدمير مناطقهم، وفِي الحقيقة معظم هؤلاء مثل سكان قضاء جرف الصخر في محافظة بابل وسكّان ناحية سليمان بيك وقضاء بيجي والعوجة ومناطق أخرى، تفرض فصائل مسلحة في الحشد الشعبي عدم عودتهم وهي من تتحكم بعودة النازحين، ولا سلطة للدولة في ذلك.

 

ويؤكد سياسيون من تلك المناطق أن الهدف من عدم السماح لسكان مناطقهم بالعودة إلى ديارهم وممارسة حقهم الطبيعي في الحياة هو إحداث تغيير ديموغرافي وإبعاد السكان الأصليين واستبدالهم بغيرهم لتغيير طبيعة تلك المناطق، لا سيما أن الحشد الشعبي فرض على سكان المناطق التي سُمح لها بالعودة تطويع أبنائهم في الحشد ورفع راياته بكل مكان كجزء من الاحتلال وتغيير طبيعة وشكل هذه المناطق التي لم تَعتدْ على رفع الرايات أو ترديد شعاراتٍ تتنافى وعقيدة أبناء تلك المناطق.

 

وسط انشغال الجميع بمصالحهم ومكاسبهم هناك من لا ترحمه غيمة ولا شمس ولا غبار ولا ريح ولا حتى بطون تصرخ جوعا وقلوبا تعتصر ألما
وسط انشغال الجميع بمصالحهم ومكاسبهم هناك من لا ترحمه غيمة ولا شمس ولا غبار ولا ريح ولا حتى بطون تصرخ جوعا وقلوبا تعتصر ألما
 

يقول السكان إنَّ ما يحدث من فوضى منذ دخولِ داعش واستبدالهم بالحشد بعد ذلك يشبه كابوساً لا بد أن ينتهي بأي شكل من الأشكال فما عادوا يعرفون أنفسَهم ولا يعرفون مصيرَ من غيبوا أو اعتقلوا من أقاربهم وأبناء مناطقهم وهم بالآلاف، كما لا يعرفون أي مصير ينتظر مناطقهم التي اعتادت على البساطة والزراعة والعمل بما تيسر ولم تعتد على العسكرة والفوضى ورؤية الوجوه المغبرَّة واللحى الكثيفة السوداء وتلقي الأوامر من أشخاص بالكاد يلفظون أسماءهم، ويسمعون من الألفاظ والشعارات ما لم يسمعونه من قبل كعشائر عربية أصيلة لم تَعرف سوى الزراعة والدواوين والتمسك بالتقاليد لينتهيَ بهم المطافُ بين إقامة جبرية مذلة في المخيمات أو احتلال وفوضى سلاح في قراهم البسيطة.

 

أمريكا غير جادة حتى الآن بإعادة الهيبة للدولة العراقية وحتى خلافها مع إيران لن يؤثر كثيرا في الوقت القريب على هيمنة الفصائل المسلحة والأحزاب السياسية المدعومة من إيران على المشهد العراقي لأنها وبكل بساطة لا تدعم أي طرف بديل لتلك الجهات في الدولة كما أنها اعترضت على مقترح تشكيل حكومة إنقاذ وطني ولجأت إلى مضاعفة نسبة المشاركة في الانتخابات لأكثر من النصف، بغية منحها الشرعية وهي تعلم جيدا أن من تصدَّر الانتخابات والمشهد السياسي في ظل الأوضاع الراهنة استغل قوة السلاح والتزوير للتلاعب بالنتائج، كما أن دول الجوار الإقليمي متفقة مع الموجودين حاليا في السلطة بشكل عام ولكل دولة أجنداتها في العملية السياسية لا تريد أي دولة أن تخسر نفوذها على حساب سيادة الدولة العراقية التي بأي حال من الأحوال لا تصب بمصلحة المنتفعين من الوضع الحالي وعلى رأسهم الدول التي تسحب النفط بسعر زهيد وتصرف بضائعها التي تريد بلا قيد أو شرط.

 

ووسط انشغال الجميع بمصالحهم ومكاسبهم هناك من لا ترحمه غيمة ولا شمس ولا غبار ولا ريح ولا حتى بطون تصرخ جوعا وقلوبا تعتصر ألما، صحف العار التي وقَّعها الساسة والأجندات الدولية تتسبب كل يوم بتعذيب المنفيين بمدن القماش وتجعلهم عرضة للمصائب والكوارث في وقت يجب أن يحصلوا فيه على حقوقهم من خيرات بلدهم الذي يحوي أكبر احتياط نفطي بالعالم بواقع 500 مليار برميل اكتشف منها 150 مليار برميل وهم يعيشون داخل خيم قماشية مهترئة منذ سنوات، بعد أن دمرت مدنهم وقتل وغيب أحبابهم ومعارفهم، فمتى تمزق صحف العار ويعود لكل ذي حق حقه.  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.