شعار قسم مدونات

بكاء كربلائي على ثلاثية المدينة!

blogs كتابة
"الذبيح"

يلومني أصدقاء وزملاء في الصحافة، وقراء أكّن لهم كل احترام ومحبة، على تغييب نفسي عن أنسنة المقالات ومحاكاة الامكنة، والثقافة، بعيدا عن السياسة ولو في مقال واحد كل شهر..! لطالما أنهم جميعا غمروني بلطف المتابعة و"التعقب" فيما أكتب.. ها أنذا اليوم؛ أفي بوعدي لكم عبر منبر "الجزيرة نت"، وأكتب كما لو أني أتحدث إليكم، بحرف عال وصوت مسموع عما يجول في بالكم وبالي، ويسكن في وجدانكم ووجداني، ويلوح في خاطركم وخاطري.. أكتب عنكم وعن أمكنة تسكنكم، ترتحل معكم أينما ذهبتم تحملونها في دواخلكم كما لو أنكم تخبئون كنز بعيدا عن أعين القانون، وكاميرات الرقابة.

 

أكتب ولا حاجة لكم ولي في هذا المقال في أي شأن سياسي. فحرب اليمن أكلت الأخضر واليابس، ولم يسجل التحالف أي انتصار حتى وإن كان هذا الانتصار على طفل يئن تحت سياط الجوع والمرض.. أكتب بعيدا عن روح الصحفي جمال خاشقجي التي تحلّق على ارتفاعات منخفضة، في أجواء سياسية بالغة الحرارة ورطوبة سيئة للغاية.. أكتب وكأني إليكم أتحدث بصوت مشروع ومسموع: "فعلى الرغم من فرضية إذابة جثة جمال في الأسيد بعد تقطيعها، ما زال ترامب.. نعم ترامب الرئيس الأميركي يصّر على احتمالية (ربما نعم وربما لا) وهي كما تعرفون في عرف السياسة لا يوجد لهذا تعريف ولا في اللغة تصريف، ويعجز العاقل عن التوصيف؛ أي "لغز" هذا الذي يضعه جحا بين أيدينا ويمضي إلى "عيد الشكر" ويعفو على الملأ عن الديك الرومي، في وقت ما زالت فيه رائحة دم "الذبيح" تفوح على عتبات القنصلية!

أعتذر منكم؛ فأنا على أية حال وعدتكم ألا أكتب في السياسة، وأن أبقى داخل مربع الإنسان والمكان، غير أني "نسيت" وجل من لا يسهو، فالوجدان.. وجدانكم ووجداني هم من يصرونّ على أن نبقى في إطار المقصلة التي تفوح منها رائحة جمال "الشاهد والشهيد".. وأطفال اليمن الذين حرموا أبسط قواعد اللعب بعيدا عن لعبة السياسة القذرة، وأولئك الذين يقبعون في سجون الفكر والرأي لمجرد أنهم قالوا رأيا مخالفا للسلطان.

 

أتحدث عن فقراء وجوعى وعابرو سبيل في بلد لبيت فيه دعوة إبراهيم عليه السلام: "اللهم اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات".. غير أن الثمرات يا نبي الله راحت إلى ترمب، فالجزية التي دفعت على مدى ألف واربعمائة عام، أخذوا 10 أضعافها في أقل من ساعة! وساعة يد لسيدة أمريكا الأولى كفيل ثمنها بأن يطعم 100 ألف فقير، ويخت يرسو على ضفاف الأحمر كفيل بتبييض وجوه حرقتها شمس الجوع والحاجة.. صدقوني؛ لم أخرج عن السياق.

أم كريّم
"أم كريّم" التي أمضت العمر ترتدي حذاء مرة واسع ومرات كثيرة ضيق نظرا لضيق الحاجة والعوز، لم تصبحّ عليّ كالعادة ولم تعزمني على قهوة الصباح

ماذا لو ملكتك الدنيا؛ وحذائك ضيق؟! ثمة مثل صيني يقول: "ماذا يفيد اتساع العالم إن كان حذائي ضيقا".. من هنا تبدأ الحكاية؛ حكاية جارتي المكلومة الحاجة "أم كريمّ" التي تقطن بعيدا عن بيتي بضعة أمتار، ولا يفصل بيتها الطيني القديم عن شرفة بيتي القديم سوى عرض الشارع وشجرة صفصاف تحط عليها عصافير الصباح، وتمسي عليها قبل غروب الشمس بقليل.. غير أن هذا الصباح كان مختلفا فإشراقة شمس يوم الأربعاء الموافق 28/11/2018، كانت تتشح بغيوم، ورياح سرعتها وصلت حد الجنون، ولم يكن شعاع شمس الأربعاء كعادته يرسلها على شكل خيوط من ذهب، وكانت المدينة وصبحها يبدو على غير العادة "كئيبا" ومثل صبية قاروطة فقدت للتو ما تبقى لها من أهل.

 

فـ "أم كريّم" التي أمضت العمر ترتدي حذاء مرة واسع ومرات كثيرة ضيق نظرا لضيق الحاجة والعوز، لم تصبحّ عليّ كالعادة ولم تعزمني على قهوة الصباح.. انتظرتها رغم إحساسي بأن أمر ما حدث، مكروه حدث، غياب حدث.. بيد أني تغلبت على إحساسي وقلت "ربما نعم وربما لا" أسوة بترمب وعبارته الشهيرة.. ارتعشت من برد الصبح قليلا وقلت في سري: أطرق الباب وأسمع الجواب، ولم تكن إلا صيحات جاءت على شكل جواب من خلف الباب لابنة الجيران التي ولولت في وجهي: "أم كريّم ماتت".. قلت أي حذاء كانت تلبس جارتي العزيزة! عالم ضيق رغم اتساعه!

أبي فوق الشجرة

أمضت أمي نصف عمرها وهي تعاون أبي؛ في ضبط المواشي، ويستمعان إلى خواء البقر وثغاء الأغنام، وصياح ديك في الصباح، ينذر ببدء يوم جديد.. فيما أنفقت ربع العمر تبكي على أخي "خيرو" الذي راح يجيب أرغفة خبز في يوم ماطر ولم يعد إلى الآن.. وكعادة المدينة العتيقة؛ وبيوتها وحاراتها وأزقتها وطيبة أهلها، دأبن نساء الحي على الجلوس بعد عصر كل يوم على مصطبة/شرفة البيت العتيق يتفيئن شجرة الياسمين، ويتحدثن بأشياء لا تخص النساء، كن يمتلكن جرأة نادرة في طرح القضايا بعفوية بالغة، ويتحدثن في السياسة والاقتصاد والثقافة وذكر الله والدين، ويختمن حديثهن بنميمة غير مؤذية.

وحدهما؛ الحجة "العلاوية" والحجة "قطنة" رحمهما الله، كانتا يتمتعان بسلاطة اللسان والجرأة كلما شعرن بانحراف مسار الحوار بين نسوة الحي، ففي الوقت الذي تذهب فيه المضيفة (أمي) لإحضار الشاي وورق النعناع على سبيل الضيافة المعتادة، تأخذ الحجة أم قاسم وضعية جديدة في جلستها حيث تتكئ على وسائد وتروح تسرد الحكايات بشغف ومصداقية فيما يومئن النساء المستمعات برؤوسهن كنوع من فهم لمجريات الحديث.

 

وفي السياق، تروي أم قاسم حكاية الضبع الذي سلخوا جلده عن عظمه، وأيضا حكاية "قصر الغولة" الخرافي المشهور في مدينتي العتيقة.. في المتن؛ متن الحكاية تروي أم قاسم: "حكاية الضبع والغولة، وتغّول مجلس النواب، وضباع الفساد في بلدي، وتنمرّ الحكومة على الفقراء والمساكين و.. و.. وتقطع أمي الحديث عنهن بحضورها ومعها شاي مع شتل نعناع احضرته طازجا من حاكورة البيت، لتنهرها الحجة العلاوية قائلة: "هذا وقته يا فزة".. فضحكن جميعا قبل أن تصب أمي الشاي لهن، ويتحدثن من جديد عن فيلم "أبي فوق الشجرة" الذي شكل علامة فارقة في حياة أبنائهن الذين رحلوا في عز الشباب.. ليبتعدن عن السياسة، ويبكين بحزن كربلائي موجع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.