شعار قسم مدونات

جمهورية الكرواسون.. السترات الصفراء يرفضون حلوى ماكرون!

blogs احتجاجات فرنسا

شمال الضّفة العربية، وعبر زوارق صغيرة انطلقت حركة كثيفة لرحلة الموت التي يخوضها العديد من الشباب العربي، حاملين معهم أحلام الإنسانية، تاركين خلفهم واقع الحرب الذي شتت أوطانهم وشرّد عائلاتهم، لقد حملت الزوارق الهشة كل ما له علاقة بالموت، ظننا من أولئك الفارين من غيابات الاستبداد، وقمع سلطة المال الإقطاعي، أنّ الغرب بمقدوره تقديم العون لهم.

 

كان الموت الذي يتلاطمه الموج من كل مكان مجرد صرخة استكشاف تصدح بها قلوب الرمال المهاجرة، فمع القهر وتعدد أوجه الطغيان، ووصول دول الما بعد الكلونيالية ذروة اللامسؤولية الاجتماعية والسياسة والاقتصادية، استطاع العربي أن يكسر الأبواب الموصدة بوجهه نحو الحرية والمساواة في الثروة، عن طريق هبة شعبية أطلق عليها اسم الربيع العربي، كان حراكا عفويا شبابيا تطلّع لما هو أفضل للشعوب التي عانت سوء التفكير الفردي.

تفاوتت آراء المراقبين في الحكم على الحراك العربي، بين من يعتبرها بثورة الخبز، وبين من يسميها بالمؤامرة الكونية على البترووطنية، كما أنّ الغرب المراقب لذلك الحراك، تذبذبت مواقفه بين موالاة الاستبداد أو التماهي مع ثورات الربيع العربي، مستخدما وسائل الإعلام ومؤسساته الإمبريالية، منذ أن أصبحت السياسة تتحكم بها مجموعة العقد الاستشراقية المقننة للتدخلات الخارجية.

 

من بين تلك الدول التي تحالفت مع النظم القمعية، جمهورية الكرواسون، التي لا دين لها إلا قيم الإنسانية الحديثة، في فرنسا يوجد الكثير من المهاجرين والمهجّرين من ديارهم قسرا، وبالرغم من حنينهم إلى أوطانهم، بقيت البروليتاريا تبني أسس جمهورية الكرواسون، بكل ما تملكه من معرفة ويد عاملة، حتى إنّ لقب فرنسا العجوز لم يعد له وجود في فضاء تغيرت معالمه بسبب الزوارق التي حملت أبناء الصف الثالث، من ذوي الحقوق الماركسية.

بعد الهزّة المالية للاتحاد الأوربي والتهافت الأمريكي على الرز الخليجي، أصبحت أوروبا تتلاطمها إفرازات المؤسسات البورجوازية المستحوذة على الرأسمال الوطني

بعد النّكسة التي أصابت دول الربيع العربي، بسبب ارتفاع تكلفة التوسع الإمبريالي للقوى الصاعدة، في الإشارة إلى تغيير مسار التجربة الديمقراطية الناجحة ببعض البلدان العربية، ظهر جليا مدى علاقة الغرب بنظم الاستبداد كأطراف مستعارة، وضعت رهانات الثورة تتصادم مع مصالح التروتستات العالمية، دفعت تكتلات الاحتكار الربحي نحو توظيف الرأسمالية المالية، عن طريق النشاط الافتراضي، الذي أنهك ورثة الصحوة الأوروبية، برسم لوحة العنف والإرهاب للحقوق الشعبية.

 

لقد تطور نهب المال العام كونه أساس الاقتصاد الانتاجي، ليعود من منظور العولمة إلى خطاب ليبرالي يوظف أطراف مراكز الاقتصاديات الاسمية، فبعد الهزّة المالية للاتحاد الأوروبي والتهافت الأمريكي على الرز الخليجي، أصبحت أوروبا تتلاطمها إفرازات المؤسسات البورجوازية المستحوذة على الرأسمال الوطني، بدأت طلائع الفوارق الاقتصادية والهتافات السياسية تعلو بسماء اليمين المتطرف، المروّج لمعاداة الزوارق السوداء، باعتباره اللاجئين عبئا اقتصاديا يخلّ بنظام الموازنة العامة للجمهورية الفرنسية، بعدما فشلت محاولاته في تجييش الفرنسيين ضد ما يسمى بالكرواسون العربي، في إشارة إلى أسطورة معركة بلاط الشهداء ضد الأمويين، مثلث تلك الزوارق التي حملت تطلعات المهاجرين على اختلاف ديانتهم والوانهم وانتماءاتهم العرقية.

 

وصفة ماكرونية تطايرت ريحها مع كل شراع يغرق، إلى اليوم يزعم اليمين الفرنسي أنّ المهاجرين مصدر قلق داخلي وخطر وجودي على التركيبة العلمانية، ظل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يدافع بشدة عن سياسته تجاه المهاجرين، باعتبارها قضية إنسانية، وذلك بالتوافق مع ألمانيا عرّابة السياسية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، فسعى جاهدا لإيجاد بدائل تلزم دول الاتحاد تقسيم تركة الأزمة الإنسانية بالعالم العربي.

 

رحلّت فرنسا أزمتها الاقتصادية عن طريق لعب دور في الشأن المغاربي والسوري، طمعا في تحقيق صفقة تسمح لها بإعادة التمدد خارج نطاق الاتحاد، بعد تراجع دورها بحديقتها الجنوبية جراء المنافسة الشديدة بينها وبين إيطاليا وإسبانيا، ومع الدور الأمريكي الصهيوني المتوسطي، ظهر جليا مدى قدرة الإمبريالية على تمديد نفس الصراع والحروب القائمة، بالبحث عن شروط تقبل بها لإعادة الإعمار التي أعلنتها حكومة ماكرون، للدول المتضررة من النزاعات، كان احترام حقوق الإنسان وتأسيس مرحلة انتقالية دستورية أهم تلك الشروط.

 

فكرة البحث عن أسواق جديدة لسلب الرأسمال القومي، طرحت من جديد مع مشاريع الإعمار المستقبلية، تلك المشاريع التي قال عنها الرئيس المصري من أنّ مصر لن تمولها، وعلى الذين خرّبوا بلدانهم بأيديهم أن يصلحوا ما أفسدوه، ومع هذا التجافي الأخلاقي بقيت تلوح في الأفق مع كل شراع ترفعه زوارق الموت، بصيص أمل نحو المجموعة الدولية.

مثّل خروج بريطانيا من اتحاد المؤسسات البورجوازية إفلاسا لحكومة ديفيد كاميرون التي توهمت رفض شاربي الشاي الخروج من المنظومة الأوروبية، شجع استفتاء المملكة أمم أوروبا لئن تحذو سبيل مدحرجوا الجبن، كان وزير خارجية بريطانيا الأسبق موريس جونسن، ينظر بكل فخر لما تدعو إليه ماري لوبان في جمهورية الكرواسون، الاتحاد ينهب ثرواتنا، يتدخل في شؤوننا الداخلية، مستغلة مجموعة التقارير التي تنشرها صحف الجمهورية عن سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه المهاجرين غير النّظاميين، فشلت دعوة لوبان لإجراء استفتاء حول إمكانية خروج فرنسا من الاتحاد، بعد حملة الاستقالات التي واكبت حكومة دافيد كاميرون، وأثبتت فرنسا مدى قدرة اليسار البرجوازي على تجنّب صدمة البريكست التي كادت تطيح بتريزا ماي.

 

تزامن هذا الخروج مع تراجع الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة، وبدء مرحلة خطيرة من صراع نفوذ المال المتراكم، عن طريق رهن المشتقات الإنتاجية لدول الشرق الأقصى، تطلعت المملكة المتحدة للعب مثل هذا الدور في تجديد نزعتها الإمبريالية، متناسية الاستفتاء الشعبي الذي قامت به أحد مراكز البحث، والتي أظهرت رفض البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي، أهملت تيريزا ماي مطالب الأحزاب المناهضة لتفكيك الاتحاد، والمضي قدما نحو دور فعال لإعادة احتواء التحولات العالمية، في السياق ذاته عارضت جمهورية ماكرون الدعاوات المنادية لتفادي سياسات الإصلاح الاقتصادي المحلي، وتجنب مزيد من الضغوط على اليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، في حين تتوجه ألمانيا المدافعة عن حقوق المهاجرين قبالة سياسات بوتين التي زادت من معاناة السوريين لضمان حل معضلة تنام الرأسمالية الروسية. 

تغافل الإعلام الفرنسي والعالمي عن مواكبة المظاهرات الكبيرة التي شهدها شارع الشانزليزيه، وخفّف من حالة عدم احترام حقوق الإنسان، كما أنّه قلل من أهمية حركة السترات الصفراء وقابلية مطالبها
تغافل الإعلام الفرنسي والعالمي عن مواكبة المظاهرات الكبيرة التي شهدها شارع الشانزليزيه، وخفّف من حالة عدم احترام حقوق الإنسان، كما أنّه قلل من أهمية حركة السترات الصفراء وقابلية مطالبها
 

قام المصرفي السّابق لدى بنك روتشيلد أند سي وأحد أهم المفتشين الماليين السيّد إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا بفرض مزيد من الإجراءات المالية على دافعي الضرائب، تجلّت تلك الزيادات برفع أسعار المشتقات البترولية، علل الوزير السابق للاقتصاد بحكومة هولاند، أنّ زيادة الضرائب تهدف للحد من الاستهلاك العام للمحروقات، والحفاظ على البنية البيئة كما نص عليه اتفاق باريس غير الإلزامي، يعي أصحاب السترات الصفراء والذين لهم القدرة على شراء خبز الكرواسون، أن لا علاقة لهم بما تقوم به المجموعة الدولية للحفاظ على المناخ، كما أن لا علاقة للزوارق السوداء في رفع معدلات البطالة، ضف إلى هذا أنّ أصحاب السترات الصفراء خرجوا من تلقاء ذواتهم، من دون قيادة نخبوية معينة، مما أثار حفيظة اليمين الذي أراد أن يطفو فوق الاحتجاجات الشعبية.

 

ومع دعوة الولايات المتحدة الأمريكية للخروج من اتفاق باريس للمناخ، وتهديد رئيسها بفرض مزيد من الضرائب على الصادرات الأوروبية، تبين بما لا ينكره عاقل أنّ الاحتباس الحراري للامبريالية الشرقية، الصين والهند، وروسيا من جهة، هو الهدف الفعلي من هذا المسلسل الرأسمالي، بصرف النظر عن القيمة الحقيقية للوجود الإنساني داخل الكوكب الأزرق، ترفض السترات الصفراء فرضية اليسار الاشتراكي وسياساته البرجوازية، المهادنة للممارسات الاحتكارية الفئوية للطغمة الصناعية. من خلال هذه الحركة العفوية التي إن جاز لنا تسميتها الخريف الأصفر، أصبحت تمثل تحديا للمصالح المافياوية وتقسيمات التروتستات العنيفة.

تغافل الإعلام الفرنسي والعالمي عن مواكبة المظاهرات الكبيرة التي شهدها شارع الشانزليزيه، وخفّف من حالة عدم احترام حقوق الإنسان، كما أنّه قلل من أهمية حركة السترات الصفراء وقابلية مطالبها، في حين نلاحظ أنّ بعض الوكلاء الإعلاميين متابعتهم بكل مهنية تصريحات ماكرون التي وصف فيها الاحتجاجات بالهزيلة والهمجية، اعتمدت وسائل الإعلام لغة احتكارية وصفت المتجمهرين بالمخربين، مع تقديم صور لإشعال الإطارات وإفساد الطرقات، وفي ضوء تزايد الرفض الشعبي لسياسة الحزب الحاكم الفرنسي، تجدد السترات الصفراء دعوتها للخروج للاحتجاج مرة ثانية يوم السبت الأول من ديسمبر، ومع حالة الترقب التي تحكم الطغمة الرأسمالية الفرنسية، تتغاضى أدوات رأسمال الصناعي عن اتخاذ أي قرار أو دعوة لضبط النفس كتلك التي يسمع صداها بأروقة مجلس الأمن والمفوضة السامية لحقوف الإنسان والبرلمان الأوروبي.

 

أراد اليسار الرأسمالي احتواء الأزمة فخفف من حدة المواجهة باحترام حقوق السترات الصفراء بالتظاهر، دون أن يتنازل عن قرار فرض الضريبة، ليعيد من جديد تشكيل جمهورية الكرواسون وفق ألوان حلوى الماكرون، التي تظهر مدى عمق الصراع الطبقي الفرنسي، وفائض الاستغلال الإمبريالي للمآسي الإنسانية والمساواة في تقسيم الثروة، لن تتوقف السترات الصفراء في رفضها حلوى ماكرون، المتسببة في تآكل قيم جمهورية الكرواسون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.