شعار قسم مدونات

نقد الحضارة بين عدمية كامو وسخرية سارتر

blogs كامو وسارتر

يقولُ ربُّ العزّة جلَّ وعَلا: "أَفحسبتُم أنّما خَلقناكم عبثاً وأنّكم إِلينا لا تُرجعون" ومنْ أصدقُ مِنَ اللهِ قيلا ونَظماً وعُمقاً! ولعلَّ مأساة مَنْ ذكرتُ أسماءهم في عنوانِ مقالي هذا تمثّلتْ في غيابِ الإله عِندَهم مِنْ جانب، ولكنّها كانتْ احتجاج على غياب المعنى ورفض للحضارة بمعناها الحَدثي على جانبٍ آخر! فكامو وسارتر لمْ يكونوا ماديين في طرحهم، وإنّما كانوا يُؤمنون بالغائيّة بشكلٍ واضحٍ وصريح، وعدميّة هذا وتهكّم ذاك لمْ تكن إلّا نتيجة لهذا البحث عن الغائيّة وغياب المعنى في الخَلاصِ والطمأنينةِ أيضاً.

 

لطالما كانتْ الماديّةُ طرحاً مجرّداً من أيّ تصوّرٍ روحانيٍّ أو دينيّ، ومما لا شكَّ فيه، أنّها السبب في خلقِ الحضارة التي نعيشها في أيامنا هذه! وأحياناً أراها فلسفة تتحدّث بلغة الأرقام فقط، وهذا على غرار آدم سميث وجون ناش، وخيرُ مثال على ذلك أيضاً فيلم Pi للمُخرج دارين أرونوفسكي، والذي طرحَ فيه الصراع القائم بين أهلِ الدين وأهل الأرقام، العلم، والحضارة المُلحدة، وعلى كلِّ حال، يبقى هذا الصراع الوجودي الفلسفي قائماً، فعلى الرُغمِ من سيطرة الحضارة سيطرة تامّة على حياتنا، والتي جعلتْ كلَّ شيءٍ ماديّ ومنَ الإنسانِ شيئاً، فأنسنةُ الشيء في الغائيّة باقية لتُحارب الشيئيّة التي تفشّت كالسرطان في هذا الوجود.

 

عدميّة كامو لا تُنكر الإله بالمعنى الصريح، وإنْ كانَ هذا الفيلسوف مُصرّاً على قولِ هذا، والتأكيد عليه، ولكنّه مُحطّم مخيّب الرجاء كما وصفه علي عزّت بيجوفيتش! ومأساته كانت في الموت الحتميّ دون فائدة على حدِّ قوله، فهو ذلك الرجل الذي فقدَ أدنى معاني الإيمان، وبالإضافة إلى ذلك هو يبحث عن المعنى في حياته والتي نهايتها الموت! فقدْ كانَ يقول: "ما هذه الحياة التي نعيشها، حياةٌ مليئةٌ بالأسى والحُزن ومن ثمَّ الموت" فقدْ كانتْ رواية الغريب هي المثال الحيّ والأنموذج التراجيدي لفلسفة ألبير كامو! حتّى أنَّ لهذا الرجل صورة وهو يُدخّن، وإنّني أراها كافيةً لاستيعابِ ما يدورُ في عقلِ هذا الرجل دونَ الحاجة لأيِّ كتاباتٍ مِنْ قِبلِه! هوَ ذلك اليائس والضائع في يأسه هذا.

 

فيما مضى كانت الماديّة تصدُر من أوروبا وغيرها، وقدْ كانت الحضارة أخفُّ وطأة من الآن، ومع هذا وجدنا ملاحدة تقف في وجهها، ولكنْ ومع دخول الولايات المتحدّة الأمريكية، صارَ للحضارة أبعاد أخرى، ومعايير مُختلفة بالمطلق

دعونا نقفز الآن في المستنقع التهكّمي لسارتر، إذْ يقول: "واختلجَ شيءٌ ما في صدره، شيءٌ فاتر ومتواضع كانَ يُشبهُ الأمل"، وعلى ما أذكر أنَّها وردت في رواية الغثيان، فسُخرية جان بول سارتر على النقيض تماماً من عدميّة كامو الجَدّيَة –إنْ صحَّ التعبير- ولكنّها تَصُبُّ في نفسِ الوعاء، ألا وهو رفض الحضارة ونقدها، وحتّى إنْ كانَ هذا النقد ضعيف إلى حدٍّ ما في مواجهة هذه الحضارة والتي بلا شكَّ باقية ولن تزول بسهولة ويّسر كما ذكرتُ آنفاً! والآن دعونا نعود لما قالَ سارتر هنا، أنهى كلامه بكانَ يُشبه الأمل! وهنا تكمن وجوديّة سارتر المُلحدة والمؤمنة في ذاتِ الوقت! ولا تعجبْ أخي من هذا، فإنّها حقيقة وإنْ كانَ هو نفسه لمْ يُدركها! واستعملَ التهكّم ليبحث عن الأمل والمعنى، لهذا ألحد كنتيجةْ غياب هذا الأمل، أولمْ يقولوا أنَّ الكوميديا والسّخرية تراجيدية في عُمقها، وكما قالَ المتنبي: "ولكنّه ضحكٌ كالبكاء".

 

قرأتُ منذُ زمن قصّة المُهرّج الذي ذهبَ لأحدِ الأطبّاء ليستشيره بخصوص كآبَتهِ الشديدة! فردَّ عليه الطبيب ونصحه بأنْ يزور سيركاً فيهِ مُهرّجٌ يُضْحِكُ جميعَ مًنْ في البلدة، ليقولَ المُهرّجُ للطبيب: أنا ذلكَ المُهرّج! ضربتُ هذه القصّة كمثال نراه دائماً حولنا، ولكنّنا لا نعلم ما يَقبعُ وراءِ الكواليس، فهنالك الكثير ممن ينتهجون نهجَ سارتر وهذا المُهرّج كردّة فعل على مآساتهم وحُزنهم، وهناك ممن يقفُ عندَ هذا الحدّ ويستخدم الكوميديا تخفيفاً وترويحاً عن نفسه، وفي المُقابل نرى سارتر الذي أعطى السُؤال أبعاداً أخرى ودخل في مهاتراتٍ ما أنزلَ الله بها من سُلطان! ولعلَّ المنطلق هو أعقد سُؤال وجودي بالمُطلق: لماذا كانَ وجود، ولمْ يكنْ عدمْ؟

 

بيتُ القصيد في هذا كُلِّه هو تِبيان للبؤس التي خلّفته الحضارة الماديّة، وطرحي لهذه الأمثلة ليس بتجديف وبُعد عن الإسلام مثلاً! بلْ على العكس تماماً، فما أُريد إيصاله هنا، أنَّ الفلسفات الإلحاديّة وقفتْ في وجه الحضارة! فما بالُك بديننا الحنيف، ومن هنا أقول: نحن كمسلمين ابتعدنا وانسلخنا تماماً عن هذه المعركة والحرب الوطيس! ولمْ نعدْ نهتمّ بما يحصل حتّى! وقدْ كان الاستهلال في هذا المقال نوعاً منَ التحفيز الفكري –إنْ صحَّ التعبير- للنهوض من السبات الذي حلَّ بنا وبأمتنا الإسلاميّة.

 

 مِنَ المصطلحات التي تصفُ هذا الحال هي (الأمركة) وهذا المُصطلح من النِتاج الفكري للدكتور عبد الوهّاب المسيري، ولعلّه أطلق هذا الوصف كردّة فعل على الهيمنة الأمريكية بشكلٍ عامّ، فَفيما مضى كانت الماديّة تصدُر من أوروبا وغيرها، وقدْ كانت الحضارة أخفُّ وطأة من الآن، ومع هذا وجدنا ملاحدة تقف في وجهها، ولكنْ ومع دخول الولايات المتحدّة الأمريكية، صارَ للحضارة أبعاد أخرى، ومعايير مُختلفة بالمطلق، وخصوصاً مع براغماتيّة وليم جيمس كحجرِ أساسٍ لهذه الحضارة الماديّة والتي أصبحتْ جديدة المعالم إلى حدٍّ ما، ويقول المسيري أيضاً: (أنَّ الإنسان العربي أصبح يُقارن نفسه بالإنسان الغربي)، ولهذا صارت حياة الإنسان المُسلم خُدعة بعد أنْ انغمست في هذه الحضارة المزعومة! وللتوضيح أكثر، أصبحَ الإنسان مُسلماً مرتبط بالعبادات التوقيفية فقط! وابتعدَ تماماً عنْ جوهر هذا الدين! فالإسلام لمْ يقتصر يوماً على العبادات فقط! فإسلامنا هو أسلوب حياة كامل متكامل، ولا يُمكن أنْ يتعايش مع أيّ نظام آخر.

 

أصبحتْ المُجتمعات رأسمالية على رُغمها، مع وجود بعضْ الثوابت الإسلاميّة بحكم شرقيّتها بلا شكّ، ولكنْ صارَ كلُّ شيء ماديّ غربي من المدارس والتعليم إلى الزواج وتقاليده أيضاً! وإنشاء المشاريع الذكيّة هذه الأيّام باسم التحضّر ما هي إلّا تدعيم لهذه الحضارة، ووضع البشر في دهاليزها الغير المنتهية والمُضنية، وذلك كي نفقد أدنى معاني القتال في دواخلنا! إنَّ أهمّ ما يُزعج السُلطة هو المُجتمع القروي إلى حدٍّ ما، وذلك لأنّه مجتمع مترابط في داخله جدّاً، وهذا يُسبّب ضرر جسيم لامتداد الحضارة، وكنتُ قدْ ذكرتُ هذا في مقالٍ سابق عن ثيودور كازنسكي، فقدْ قال هذا الرجل في بيانه: (أنَّ خلع الولاءات الأسرية هو أهمّ خطوة لفرض السُلطة ووضع هذه الولاءات في مصلحة السُلطة دعماً للحضارة)، وهذا ما تمَّ فعله في الصين، إذْ أنَّ الترابط شديد فيما بينهم، والناظر إلى الصين الآن سيُدرك النجاح الصارخ للسُلطة لترسيخ مفهوم الحضارة الماديّة وإنْ ادّعت الصين أنّها شيوعيّة! فهي رأسمالية وقدْ “تأمركت” رُغمَ أنفها.

 

بدأتُ بكامو وسارتر، ومنْ ثمَّ انتقلت إلى المسيري وكازنسكي، ذكرتُ البحث عن المعنى وغياب الإله، ومنْ ثمَّ انتقلتُ إلى السُلطة وإلى منهجها في فرضِ الحضارة وهدفها من هذا الفرض، ومنهجي هنا في هذا كلِّه هو حشد للقوى –إنْ جازَ القول- ووضع الحضارة الماديّة في كفّة، والتمرّد المُجابه لها في كفّة أخرى، وكامو وسارتر كانوا أمثلة حيّة على المقاومة والحشد، وذكري لهم يندرج تحت جلد الذات، فهؤلاء الملاحدة كانوا تيّاراً مخيفاً! ونحن المسلمون ابتعدنا وأصابنا الكسل والخمول، وكلُّ واحدٍ منّا صارَ من أصحاب الكوجيتو المتمثّل "بلقمة العيش" فقط! لذللك نحنُ الأجدر بقيادةِ هذهِ الحربِ، ونحن الأجدر باتبّاعِ كلّ من سارَ على هذا النهج، والوقوف على جبل التصوّر الإسلامي هو سلاحنا، ورحمَ الله البيجوفيتش عندما قال: "إنَّ الوحدة الإسلاميّة تنبع من داخل الشعوب المُسلمة، أمّا القوميّة لطالما كانتْ بِضاعة مستوردة" ولعلّ الحديث عن القوميّة كجزء من الماديّة يحتاج مقالاً آخر، ويكفيني الآن ما تحدّثتُ عنه من غياب للمعنى ومنْ ثمَّ إلى مقام الحضارة وتسيير السُلطة لها، وأنا على ثقةٍ أنَّ صناعة الطواغيت ستُصبح فانتازيا في المستقبل القريب! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.