شعار قسم مدونات

الإرهاب من مدخل الكباب!

Blogs- islamic state

في لحظة درامية، تحول مواطن ذهب لاستخراج ورقة من مصلحة حكومية إلى إرهابي. تضامن معه بعض الحاضرين في هذا المجمع الحكومي، وكلهم من المواطنين العاديين، وصاروا مجموعة إرهابية لها مطالب ترفعها إلى السلطة. فيلم "الإرهاب والكباب" يقول إن الإرهابي لا يولد إرهابيا، وأن الإرهابي ليس له شكل ولون معين. صحيح الفيلم يمثل استثناء داخل دراما "احذر اللحية" المصرية، ولكنه يضع أيدينا على السؤال الأهم من السبب في العنف: النص الديني أم الواقع السيء.. من يحكم من؟ هناك مدرستان في هذا الإطار، الأولى: مدرسة النص الذي يولد العنف، أو قبعة الحاوي التي تخرج الكتاكيت والمفخخات. والمدرسة الثانية التي تقدم الواقع الغاضب الذي يأتي بالنص الغاضب الدافع إلى العنف.

 

أسطورة العنف الديني

بداية يمكن أن نلمح ظلال المدرسة الأولى "امسك نص" إذا تذكرنا زعيق أحد الصحفيين المصريين ذات يوم: "أيوه الإرهاب له دين اسمه الإسلام"، وأنه آن الأوان لمراجعة النصوص الدينية، وإزاحة الدين عن السياسة حتى يتوقف سفك الدماء ويحل السلام. إنها الفكرة الأكثر شعبوية والتي تربط الدين بالعنف، والنص بالرصاص. ترجع الكاتبة الإنجليزية "كارين أرمسترونج" في كتابها "حقول الدم" أصول الربط بين العنف والدين إلى قرون الأنوار بدءا من القرن السابع عشر حينما شرع الغرب في عزل الكنيسة عن السياسة؛ فقد كانت هناك رؤية سائدة ترى أن الدين هو المسؤول الأول عن العنف والصراعات الدموية التي سادت أوروبا في العصور الوسطى. وأن انتصار العلمانية والفكرة القومية انتصار للسلام والتسامح والخلاص من تلك النزاعات.

 

وهنا تشير الكاتبة إلى دور اثنين من هؤلاء المنظرين اللذين لعبا دورا مهما في إعطاء هذا الانطباع عن الدين، "توماس هوبز" و"جون لوك". وبطريقة ما، ربط الاثنان بين العنف والنصوص الدينية، وتوسعت هذه النظرية وتجاوزت إدانة الفكر للدين إلى إدانة الدين نفسه، باعتبار الدين "قوة عنف غير عقلانية"، حتى أن هناك بعض الكتاب رأى أن التوحيد نفسه فكرة غير متسامحة، ومن الصعب عقد أي توافقات مع الموحدين لأنهم لا يقبلون إلا بالحقيقة الواحد. باختصار، استقر الرأي على أن العنف بذرة نزلت في معطف جبريل، وليست من نبات الأرض.

 

الوعد بالسلام
انتصرت العلمنة والقومية على الدين خلال الثلاثة قرون الأخيرة، لكن واكب ذلك طلب مرتفع على الحروب، وتوسعت الحاجة لنظرية جديدة تبرر الاستعمار وتشرعن العدوان

وفي فرنسا القرن الـ 18، أحرقت الجماهير الكنائس، حوالي 4000 كنيسة تم تدميرها بحسب ما تقول الكاتبة، وطويت علاقة الدين بالدولة والسياسة بل والمجتمع، وشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس كما أوصى فولتير، وحلت الدول الوطنية التي تقوم على قوميات وعرقيات محل الإمبراطوريات، فهل حل على الأرض السلام وأضحى للناس المسرة؟ الحقيقة أن العلمنة ووعود الدولة القومية الغربية لم تنجحا في نشر السلام الموعود، حيث تسارعت وتيرة الحروب والتسابق على موارد الأمم وإقامة المستعمرات، وتم السطو على مخزون بشري لقارة بأكملها في أكبر حملة لتعبئة العبيد في التاريخ، حتى صاحبنا رائد التسامح جون لوك تورط، كما تقول أرمسترونج، في تجارة العبيد والتشجيع على احتلال بعض المناطق.

 

منيت الإنسانية بملايين القتلى الذين ماتوا وأسروا في القرون التي امتدت من السادس عشر حتى العشرين تحت رايات بعيدة عن الدين والفتاوي الدينية، لم يعد هناك بطرس الناسك، الذي يصلي من أجل الجنود، حيث صعدت فتاوى تمجد الجنس الآري الذي خلق ليسود، وعلم الفاشية الذي وعد موسيلني أن يضعه على النجوم. نجد أنه ما بين 1914 – 1945 مات سبعون مليون انسان في أوروبا والاتحاد السوفيتي، وارتكب الألمان أسوأ الفظائع في التاريخ لأسباب تخص الهندسة العرقية والقومية واللونية، بحسب أرمسترونج. بخلاف القنابل النووية التي قضت في هيروشيما على 140 ألف فورا، وأنهت الثانية حياة 24 ألف.

 

عايش المفكر الألماني أريك فروم أجواء الحرب العالمية الأولى، وكيف كانت تتسابق الشعوب العلمانية على التعبير عن روح الشوفينية القومية والتفوق العرقي، آري وأنجلو ساكسوني وفيكينغ ويهود وروس، في حالة أشبه بهيستريا كونية، كانت تعم الأمم المتحضرة. وهنا يمكن أن نستمع لدراسة مهمة ألمح إليها اللاهوتي "جوناثان ساكس" الذي يرى فكرة أن الدين هو المحرك الأساس للعنف والحروب يمكن تفنيدها بسهولة عن طريق استكشاف تاريخ الحروب، وموسوعة "ألان اكسلرود" عن المعارك العسكرية التي تغطي عدد 1800 من الحروب عبر التاريخ، وتبين أنه في 10% فقط كان الدين هو الدافع الرئيس.

 

حتى على صعيد الهجمات الانتحارية تقول الكاتبة، إنها كانت في الأصل على يد حركات قومية مثل نمور التاميل وهي حركة انفصالية قومية علمانية لا علاقة لها بالدين وأعلنت مسؤوليتها عن 260 عملية خلال عقدين من الزمن. وإحدى الدراسات حسبما تنقل في كتابها، صادرة عن جامعة شيكاغو قد تتبعت العمليات الانتحارية عبر العالم ما بين 1980- 2004 وخلصت الى أن القليل من الروابط بين الإرهاب الانتحاري والاصولية الإسلامية أو أي دين بهذه المسألة ومن بين 38 هجمة انتحارية في لبنان خلال الثمانينات كان 8 من الانتحاريين مسلمين و3 مسيحيين و27 علمانيا اشتراكيا.

 

شريعة دارون للقتال

انتصرت العلمنة والقومية على الدين خلال الثلاثة قرون الأخيرة، لكن واكب ذلك طلب مرتفع على الحروب، وتوسعت الحاجة لنظرية جديدة تبرر الاستعمار وتشرعن العدوان، وفي نفس الوقت تصرف النظر عن الأسباب الحقيقية للعنف والتوحش مثل: الأطماع الاستعمارية وندرة الموارد. وكانت نظرية التطور حاضرة لتكون بديلا للدين في تلك الحقبة، فإذا كانت الأعراق والقوميات تتنافس على الأفضلية فطبيعي أن يحضر نبي العلوم دارون؛ حيث تم نقل الداروينية البيولوجية بشكل مبتذل إلى الواقع الاجتماعي والفلسفي، باعتبارها قانونا يحكم السياسة والعلاقات بين الدول والأمم باعتبار أن البقاء والنفوذ للأقوى.

 

لم يقدم دارون فقط لهؤلاء مبرر الصراع والعدوان بحسب الكاتبة، ولكن أيضا تم توظيفه بشكل ما بحسب ما يقول أريك فروم في العديد من كتبه، ليكون منطلقا نظريا لتفسير سلوك الإنسان. فإذا كان الإنسان قفزة متطورة من أصول حيوانية، فمن الطبيعي أن يصبح العدوان والعنف والتوحش أشياء غريزية مثل الجنس والطعام، وأن والرغبة في التدمير هي نزعة حيوية تنبع من داخل الإنسان ولا تخضع لأي مؤثرات خارجية كما يقول لورانتس وفرويد، فـ "العدوان في خدمة الحياة" "في خدمة بقاء الفرد"، "في خدمة الانسان الأفضل". 

 

العنف من رحم الواقع
عندما يغضب المسلمون فليس لأن هناك نصا يقودهم للغضب، ولكن لأن الواقع الغاضب يستدعى ما يدعمه من نصوص، وإن لم يوجد نص يخترع كما حدث في الصراع الفِرقي في التاريخ الإسلامي

النظرية الثانية وهي تقلب المنطق السابق؛ فهي ترى أن الدين ودارون والقوميات كلها وغيرها، ليست مصدرا للعنف بالذات، بل هي نظريات تستدعى عند العنف. وترى أن العنف موقف قبل أن يكون فكرة، أو أداة كما تقول المؤرخة حنة أرندت، وينبع من اختلالات اجتماعية وسياسية، ومن الطبيعي أن توجه هذه الاختلالات أي قراءة لنصوص دينية أو علمية مادية، صراعات البشر بسبب ندرة الموارد الجيدة لا لندرة النصوص الجيدة.

 

وعندما يغضب المسلمون فليس لأن هناك نصا يقودهم للغضب، ولكن لأن الواقع الغاضب يستدعى ما يدعمه من نصوص، وإن لم يوجد نص يخترع كما حدث في الصراع الفِرقي في التاريخ الإسلامي، حيث جنحت كل فرقة لوضع الروايات التي تمجد موقفها، والناس تفكر لتعيش، ولا تعيش لتفكر. وهي مسألة أصولية قبل أن تكون سيسيولوجية، فالواقع المتغير والمتجدد يعتبره الفقهاء المدخل الأهم لفهم وتفسير النص، وكان أحد الأصوليين قد ربط بين تشدد الفقه الإسلامي مع غير المسلمين في العصور الوسطى بمناخ الحروب الصليبية التي ألقت بظلال من المحافظة الشديدة على الفقهاء. وأحيانا نفس الفكرة الدينية تعمل وظيفتين مختلفتين بسبب تغير السياق السياسي للفكرة، فدخول الإمام الثاني عشر السرداب ولد سكونية شيعية طيلة ألف عام، ومن سردية السرداب نفسها خرجت ثورة عارمة في 1979 في طهران.

 

وفي القرون الوسطى استُدعي نص الكتاب المقدس "لا تَدَعْ سَاحِرَةً تَعِيشُ"، لأن الواقع كان يدفع لحرقهن، للتنافس بين السحرة والكنيسة على جيوب المواطنين المغفلين الذين كانوا يطلبون الشفاء، والآن انتفت دوافع التنافس فأصحبت تتلى الآية للبركة. وقد أخذ المصلح الإنجيلي لوثر موقفا إيجابيا من فكرة المقاومة السلمية في لحظة تاريخية وكان يقول "لا أوافق على نصرة الانجيل بالعنف وإراقة الدماء"، وعندما قامت ثورات الفلاحين التي باتت تهدد مصالح القوى السياسية والاجتماعية التي تدعم أفكاره الإصلاحية صرخ "يجب تمزيقهم إربا إربا، خنقهم، ذبحهم، في السر والعلن"، ولم يتوقف المصلح الكبير عند ذلك، بل حكم عليهم كما يقول فردريك انجلز بالهرطقة والردة عن العقيدة.  

 

والحقيقة كان الجاحظ[1] عمرو بن بحر، من أهم المفكرين الذين اكتشفوا تلك الحقيقة المزدوجة لطبيعة الدين، سواء توظيفه في زيادة الاستبسال أو استخدامه في تهبيط نوازع العنف في النفس، حيث أرجع الجاحظ ميل قريش قبل الإسلام للتجارة وترك الحروب والهجوم على القبائل، إلى ازدياد تحمسهم الشديد للدين. وطبق الجاحظ نفس الملاحظة على الرومان حيث أرجع سبب هزيمتهم من الفرس إلى اعتناقهم للمسيحية التي قللت ايمانهم بالحروب في ذلك الوقت، وكذلك تأمل فعل الدين على قبائل الترك حيث برر انكسار شهوتهم في القتال لتزندقهم أو إيمانهم بالبوذية. وفي نفس الوقت ضرب الجاحظ أمثلة لدور الدين في الحشد والتعبئة في لحظة أخرى حيث أرجع شدة بأس الخوارج في القتال "إنما هو بسبب الديانة".

 

نفس الفكرة اهتدى إليها المفكر الماركسي فردريك حيث أرجع خصوصية العنف والإرهاب في الثورة الفرنسية والذي كان سببا في نجاحها الفريد، إلى ضعف المشاعر الدينية واستبدال الدين بـ"العقيدة المادية الثورية". وبرر تعثر ثورة الإنجليز بسبب أنهم كانوا قوما يخافون الله، الأمر الذي عطل طاقة العنف الثوري. وهذا يعني أن السياق والظروف هي العوامل التي قد تجعل من فكرة ما دورا في صناعة السلام أو دفع الحرب، وأن توقف العنف ليس مرتبطا بتجديد الخطاب الديني فقط، بل بتغيير الواقع السياسي، وأن عملية التجديد تبدأ من المعاش وليس من النص، ومن الدولة وليس من الدين.  بمعنى أوضح: الواقع هو الذي يضيء النص، وبقدر النور الساقط من الواقع بقدر الضوء المنعكس من النص. إن تأكيد السياسيين أن العنف يبدأ فكرة أو نصا، يصرف الأنظار عن مسببات العنف الحقيقية، فالتوحش نتيجة وليست غريزة سحيقة في البشر وليست حتمية في تلافيف الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] شكرا للزميل الصحفي أحمد فال ولد الدين الذي لفت نظري لنصوص الجاحظ المهمة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.