شعار قسم مدونات

أيها القارئ.. ألم يحن موعد الكتابة؟!

مدونات - الكتابة

يبدو الأمر مختلفاً عن كتابة موضوع قد طُلب منك في المدرسة، لتكتب بإيجاز عن الأم أو العِلم ومواضيع شتّى، لا شك أن كُلٌّ منّا قد كتبها ليس لشيء سوى أنها واجب يجب تأديته، لكن ماذا عن الكتابة لا لشيء سوى الكتابة. لم أكن لأتخيل نفسي يوماً بأنني سأكتب لا لشيء سوى أنّني أريد أن أكتب. كنت أؤمن بوجود سر يكمن وراء الكتابة يدفع الكتّاب لأن يقضوا أشهر بل سنين في كتابة كتاب أو رواية لربما لن تكون محط إعجاب جمهور القرّاء بل الأسوأ من ذلك أن تكون كرة في ملعب النقاد والمثبِّطين.

من المؤكد أن كلٌّ منّا تذوق لذة الانتصار بعد الانتهاء من قراءة كتاب أو رواية، بعد ذلك أسقطها على حياته من زاوية أو أُخرى. هذا حال القارئ فلك أن تتخيل مقدار السعادة التي يشعر بها الكاتب عند الانتهاء من كتابة مشروع قد بدأه. ليس هذا فحسب بل تخيّل معي كيف عاش الكاتب مع أحداث الكتاب بكل تفاصيله، وكأنه عاش أحداثه جسداً لا روحاً فقط. لاشكَّ أن الكتابة تُساعد في التنقيب عن كنوز الإنسان المدفونة في داخله، وتعمل على سبر أعماقه لتُخرج أرقى الكلمات وأنفَّسها، فها هي الكاتبة الشهيرة ديرابيل الليندي تقول عن الكتابة بأنها العمل على أن تجد الكلمة الدقيقة التي ستخلق شعوراً أو تصف حالة.

فالكتابة دائماً ما تعطي شكلاً من النظام لفوضى الحياة، فهي تنظّم الحياة والذاكرة، فجوهر الكتابة هو رؤية الخلل بنظرة تحليلية. إنه لشيء جميل أن تكون من رواد القراءة ولكنه سيكون أجمل عندما تكتب، ففي الكتابة لذة لا يعلمها إلّا من عاشها. فالكلمات إن لم تُكتب تكون كالطير في القفص، يَأِن ويحلم بسماء رحبة يُحلِّقُ بها في هذا الكون الفسيح. فالكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها، وأربح البضائع وأنفعها وأفضل المآثر وأعلاها، وقد أطنب السلف في مدح الكتابة والحث عليها فلم يتركوا شأواً لمادح حتى قال سعيد بن العاص: "من لم يكتب فيمينه يسرى". وزاده معن بن زائدة قائلاً: "إذا لم تكتب اليد فهي رجل".

قد آن الأوان لتفتح زنزانتك وتطلق العنان لكلماتك لتنساب كالغدير بين السطور تروي قلوباً وعقولاً ظمأى.

في جعبة كل منّا قصة وألف حكاية والعديد من التجارب من الممكن أن تكون لغيرنا كنزاً نخفيه عنهم، فربَّ كلمة أحيت إنساناً وبثت أملاً وغيّرت مجرى أمم. فها هو الإمام بديع الزمان سعيد النورسي ينبري لكتابة موسوعة إسلامية قيّمة مؤلفة من ١٤ مجلد، تحتوي ١٣٠ رسالة تناولت العديد من القضايا الإسلامية الحسَّاسة والمهمة. وقد كانت بداية قصته عندما قرأ نبأ في الجريدة أحدث انقلاباً في حياته، وهو أن وزير المستعمرات البريطانية غلادستون قال مشيراً إلى مصحف بيده: "مادام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم فلنسعَ إلى نزعه منهم أو ابعادهم عنه مهما كان الثمن". فقد كانت لهذه الكلمات وقعاً كبيراً على قلبه فقال مقرراً: "لأبرهننَّ ولأظهرنَّ للعالم أجمع أن القرآن شمس معنوية لا تخمد ولا يمكن إخمادها" فوقف حياته لإثبات قضيته هذه.

الكتابة هي صورة من صور النهضة والرقيّ في حياة الشعوب، وكلّما كَثُرت الكتابة النافعة وتأليف الكتب كلّما دلّ ذلك على ثقافة الشعب وحضارته المتجذّرة. كما أنّ الكتابة هي شكل من أشكال التّعبير عن الإبداع؛ حيث تمكّن المبدع من إفراز مخزونه الإبداعيّ والثقافيّ في شكلٍ مكتوب. تظهر أهمية الكتابة جلية في تسجيل علوم وتاريخ الشعوب والحفاظ عليها من الضياع لتوريثها فيما بعد لأبناء هذا الشعب أو حتى للشعوب الأخرى. فلولا العلوم والقوانين التي ورثناها من أجدادنا ما وصلنا لما نحن فيه الآن من علوم وتكنولوجيا متطورة،  ولبدأت كل حضارة أبحاثها من نقطة الصفر.

يعاني الكثير من البشر حاليًّا من الاكتئاب أو الحزن الدفين دون سبب، ومثل هؤلاء الناس في الحقيقة لا يعلمون لماذا هم مكتئبون،  والكتابة في هذه الحالة تكون وسيلةً جميلة لمعرفة مكنونات النفس بالنسبة إلى الشخص نفسه. إذ يكون ما يكتبه الشخص على الورق جزءًا من شعوره الذي لا يدركه، وقد تخرج هذه الكتابة في صورةٍ عشوائية، وقد تخرج في صورةٍ منظمة، مثل الشعر أو القصة أو المقال. وفي كل الأحوال الكتابة هنا تُعدُّ علاجًا للنفس، لأنَّ الشخص نفسه حينما يقرأ ما كتبه عن نفسه ربما سيُفاجأ بأحاسيس وكلامٍ لم يكن يعتقد أنه بداخله بالفعل.

ولشرف الكتابة وفضل الكتّاب صرف كثير من أهل البلاغة عنايتهم إلى وضع رسائل في المفاخرة بين السيف والقلم، فرجّحوا القلم على السيف بضروب من وجوه الترجيح فقال بعضهم مُفضلاً القلم بقسم الله تعالى به:

إن افتخر الأبطال يوماً بسيفهم .. وعدّوه مما يُكسب المجد والكرم
كفى قلم الكُتّاب عزّاً ورفعةً.. مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

ثق بنفسك إذا كنت تستطيع فعلها فستفعلها. قد آن الأوان لتفتح زنزانتك وتطلق العنان لكلماتك لتنساب كالغدير بين السطور تروي قلوباً وعقولاً ظمأى. فصناعة كلمات جميلة تعني صناعة عالم أجمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.