شعار قسم مدونات

حرب لبنان بين امرأتين!

blogs حرب لبنان

لبنانيون كثر أرخوا للحرب التي شهدها بلدهم بين أعوام 1975 و1990. أكاديميون ومؤرخون؛ كسمير قصير وفريد الخازن، تناولوا مراحل محددة فيها، بتفصيلاتها السياسية وأحداثها المفصلية، وخلفياتها الطائفية والجهوية، وتشابكاتها، وتعقيداتها المحلية والإقليمية. آخرون حزبيون من قادة اليمين المسيحي ككريم بقرادوني وجوزيف أبو خليل تناولوا حرب لبنان من موقعهم كمشاركين فيها، وعارفين ببعض تفصيلاتها، بالنظر إلى دورهم المباشر في بعض فصولها. وهم عرفونا ببعض التفاصيل والوقائع المهمة، وأغفلوا آخرى.

 

حتى مرتكبي المجازر والفظاعات كجوزيف سعادة (السبت الأسود) وروبير حاتم (الكوبرا) أدلوا بدلوهم في كتب نشرت في الغرب، بناء على روايتهم وشهاداتهم وما اختزنوه من معلومات. لكن ذلك أيضا لم يعطي صورة كاملة، عما حصل خلال السنوات العجاف تلك. لهذا ربما وجد الوثائقي الذي بثته الجزيرة عام 2002 بعنوان "حرب لبنان" هذا الاستقبال والصدى الواسع. ففي في ذلك الشريط الذي أعده عمر عيساوي، وجرى بثه على حلقات نستمع إلى تفاصيل التفاصيل حسب تعاقبها، وبلسان كل من انخرط في تلك الحرب : لبنانيون من المعسكرين، فلسطينون، إسرائيليون، دبلوماسيون أميركيون. وجرى تدعيم تلك الآراء بتحليلات، خبراء صدف أن بينهم سوريون.

 

منذ ذلك الحين، لم نطلع- نحن شهود تلك الحرب وضحاياها-على شهادات مختلفة عن الحرب سوى على يد ثلاثة: رجل وامرأتان. الأول هو المفكر المستقل سمير فرنجية الذي عرفنا في كتابه "رحلة إلى أقاصي العنف" بتطورات الحرب وما تلاها وصولا إلى الانسحاب السوري عام2005  إثر اغتيال رفيق الحريري. رواية فرنجية- سليل العائلة السياسية المعروفة – أتت من زاوية استقراء فرص التعايش بين اللبنانيين بعد الحرب.

 undefined

ريجينا صنيفر كانت أول سيدة تعرض شهادتها عن الحرب من وجهة نظر مقاتلة مسيحية انخرطت فيها، ثم رحلت إلى فرنسا تاركة وراءها كل شيئء بعدما اختلف رفاق وقادته الصف الواحد (القوات اللبنانية) على المغانم. لكن رواية صنيفر المعنونة "ألقيت السلاح" كتبت بالفرنسية لتناسب ذوق قارئ مولع بالقوالب الجاهزة عن المسيحيين والمسلمين والفلسطينيين. وهي لم تقارب نبض القارئ المحلي إلا عندما تحدثت عن الفظاعات التي شهدتها بنفسها، ودفعتها للرحيل والعيش في فرنسا.

 

قبل عامين روت سيدة لبنانية أخرى هي دلال البزري فصولا من قصتها مع الحرب من وجهة نظر ناشطة انخرطت في تنظيم يساري هو "منظمة العمل الشيوعي". في كتابها الأول الصادر عام 2016 بعنوان "أيام السعادة الثورية" تعرفنا البزري بالعالم الداخلي لتنظيمات اليسار ورؤيتهم للأخر المخالف في الرأي أو العقيدة، ونظرة هؤلاء إلى العالم بوصفه سائر لا محالة في الطريق الذي يرون أن متحقق لا محالة. ومن هنا جاء وهم السعادة الذين عاشوه لسنوات.

 

لا يهمل
لا يهمل "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية" تعريفنا بالرياء والمراوغة والمحسوبيات في أحزاب اليسار التي تدعي الطهارة: أعضاء المكتب السياسي الذين خصصت لهم سيارات مرسيدس ومرافقين مسلحين
 

في كتابها الثاني الصادر عام 2017 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات تناولت البزري الحرب بتفصيلاتها عبر وقائع ومشاهدات وقصص عاشتها أو حدثت على مقربة منها. ففي كتابها المعنون "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1990- مذكرات وشهادات" تحدثت البزري عن يومياتها خلال الحرب انطلاقا من تجاربها: كناشطة سياسية، وزوجة قيادي حزبي من الصف الثاني في منظمة العمل الشيوعي، ووالدة، ثم أكاديمية تعاونت في أعداد بحث مع ميشال سورا الباحث الفرنسي المعروف الذي خطف ومات بمحبسه. تعرض سردية دلال البزري عن الحرب مرارة الاختطاف والتغييب القسري (للزوج والأبن على التوالي)، ومرارة التهجير الذي عاشته على يد مسلحين من طائفة أخرى، أرغموها على مغادرة منزلها في حارة حريك خلال 24 ساعة ليقيموا فيه. ومن السردية ذاتها تذوقنا معنى أن يختطف ابنك من قبل رعاع باحثون عن غنيمة. واضطرارك لمغادرة البلاد والهجرة لأن "العين الحمراء عليك".

 

في روايتها عن حصار تل الزعتر مثلا، تنقل البزري عن فتى لبناني قريب لها تصادف وجوده في المكان وعاش كل الوقائع المرة في صيف 1976." في الأسبوع الثالث أو الرابع لا أذكر تماما بدأ الخبز يختفي بالتدريج.. نقطع الخبز "الحاف" مئة شقفة ويكون لكل عائلة مع أفرادها رغيفان ، على أن الأطفال هم أصحاب الشقفة الأكبر يليهم آباء قليلون . فالباقون إما استشهدوا وإما أنهم " يديرون" معركة الحصار مجتمعين مع بعضهم في زوايا مظلمة في الملجأ ، أو ربما في مداخله … ثم الأمهات.. آه الأمهات أعظم مخلوقات الله، لا حصة لهن من فتات الخبز".

 

لا يهمل "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية" تعريفنا بالرياء والمراوغة والمحسوبيات في أحزاب اليسار التي تدعي الطهارة: أعضاء المكتب السياسي الذين خصصت لهم سيارات مرسيدس ومرافقين مسلحين. قرار حزبي بإنشاء منظمة نسوية تقودها زوجات الأمين العام وثلاثة من أعضاء المكتب السياسي. كتاب دلال البزري ليس عملا روائيا عن سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. هو أقرب إلى سردية تعرفنا بما كان يحصل في ثناياها: داخل المكاتب الحزبية، والبيوت وخلال أيام الانتظار الطويل في الملاجئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.