شعار قسم مدونات

عزاءات السينما.. هكذا أنقذتني من التعفن!

blogs تأمل

يُسايرني صاحبي حولَ أَمر ذَهابي الدّائم للسِينما كُلَّما داهمني الحُزن فَجأةً. أَمضي دونَ قرارٍ مُسبق، وأحجز رحلة على مَتن أفضل فيلمٍ مُتاح. ثُمَّ يتراجع فيما أكده قائلاً: أَنّي أقوم بِذلك أيضًا في أوقات فرحي. يَحكّ جَبينه ويَتردد مُجددًا: في كُل الأوقات.. في كلِّ الأوقات. إنّه يَختصر وَظيفة السِينما مِن وجهة نَظري: حَشر وضَخ وصهر وإذابة كل إحساس وحالة نَفسية ضمن منظومة شُعورية لا تُقدّمها سوى السينما حَصرًا.. إنها القُبلات والحروب والاجتماعيات والمُحاكمات الأخلاقية والأساطير التي تَمتص عنف التاريخ حسب رأي برودريار، إنها العزاء الذي يتجنب لك ولا يتجنبك، السلوى التي لا يُمكنك لَمسها إلا ضمن قاعة خُلقت مِن ظلامٍ وسِحر؛ تِلك التي تَنتابك داخلها قشعريرة جرّاء مَشهدٍ ما، أو الرغبة العارمة في البُكاء.. عِندما تُدرك لِوهلة، أنّك جزءًا مِما يَجري أمامك.

أُغادر القاعة الآن، إنها الواحدة بَعد مُنتصف الليل وقد غادر أغلب العُمّال. لَم يبقى سِوى ثلاثة تقريبًا. وأشعر لِلحظة أَني الموظف الرابع؛ سأغلق الأبواب مُتهكّمًا، وأطمئن مِن أن شيئًا لُن يُعكّر صفو السكون السّائد، وبعد ذلك أَمضي في سبيلي. نَعم، أَنا صاحب المَصلحة، موظف، لا يَهم التّصنيف، لَكن شيئًا يشدّني لأعرف أَن كل أمر يَخص البقعة تلك جيد وبأحسن حال. سأوضب المَقاعد وأُنظّف حَبّات الفشار والمَارشميلو والدوريتوس، ثُم أنظف الصلصات والبيبسي عَن القماش بِينما ألعن المُشاهدين الذين خَلّفوا كل هذه الفوضى وراءهم.. إنَّ شعورًا بالأمومة يَنتابني، الأم التي تلعن تربية أبناءها، وتوضّب المَنزل قَبل خروجها، وهيَ تُدرك أنه سيعود على حاله في اليوم التالي، لِكنها لسببٍ ما مُجبرة على ذلك.

أَشعر بِالمُبالغة.. يا إلهي، هَذهِ تِجارة! سَيتم تَبديل المَقاعد لاحقًا. حَتى العُمّال! إنهم لا يبالون بالأمر.. وأقتنع أخيرًا بِذلك؛ إنَّ خَدماتي غَير مرغوبٍ بها. وأَنَّه عليِّ التّخلي عن حيرتي بين أن أتعامل معهم باعتبارهم؛ (الموظفون: الذين يَمتهنون مِهنًا إدارية ضمن مؤسسات تِجارية) أَم أنهم (عُمّال: يُساهمون بعمليات تشكيل الوَعي وإعادة إنتاج الواقع مَثلًا).

أعرف الآن رُبًّما سبب الحوادث المُستمرة؛ هرس الأبقار والغزلان وعلب البيبسي الفارغة والناس الثكالى الذين تَنتابهم رغبة في الوقوف مُنتصف الشارع لأن شيئًا ما يَكسر خاطرهم

أَمضي مُتسكعًا نَحو البيت بعد ذلك وشعور بالرضا يُلازمني. إنّها شوارع صَيدا، الشوارع الغارقة بالعتمة والمَلل، ورائحة تشبه رائحة صدأ الأسوار الحديدية المُمتزجة بِنسيمِ عشبٍ أخضر رطب. إنّه الإثنين، سَينام كل موظفٍ وطالب مَدرسة وجامعة باكرًا، ولن يَبقى سوى بِضعة سيارات ودراجات تَمرّ بِسرعتها القصوى، وتُخلّف على الجانبين نَسمات باردة تُجمّد الأطراف.

ما احتمال أَن تَهرسني سِيارة؟ أَن أَكون مُستويًا فوق الأسفلت تَمامًا، وقد أعادت الإطارات تَرتيب مَفاصلي، وعَصرَ عامودي الفِقري وتخليصه من أيِّ احتمال لأن يَخونني يومًا ما. أشاور نَفسي بينما أبتعد عن الطريق قليلاً.. هذا مُمكن. وأفكر بعدها في الرغبة العَنيفة بانتهاك الفراغ، ذلك الفراغ الناشئ عن اليقظة التّامة بالفروق المكانية والزمنية والجمالية بين هذا الشارع، وشارع في فيلمٍ سينمائي.

ما زالت السّيارات والدراجات تَمر، وتَخلّف حِبالاً من أصوات التحام الدواليب بالأسفلت. أَتذكر ما قاله ميلان كونديرا في روايته البطء: إنَّ المُمتطي لدراجته النّارية لا يُمكن أن يُركز إلا على الثانية الزمنية لانطلاقه، مُتشبثًا بومضةٍ من الزمن مفصولةٍ عن الماضي والمُستقبل، مُنتزعًا من اتّصال الزمن، يكون خارج الزمن، أو بعبارة أُخرى تتلبسه حالة من الانخطاف، فيها يَنسى كل شيء عن عمره وزوجته وأبنائه وهمومه. بانطلاقهِ، يَكف عن الخَوف، لأن في المُستقبل يَكمن مَصدر الخوف، ومن تحرر من المُستقبل لا يبقى لديه ما يخشاه.

هَكذا.. أعرف الآن رُبًّما سبب الحوادث المُستمرة؛ هرس الأبقار والغزلان وعلب البيبسي الفارغة والناس الثكالى الذين تَنتابهم رغبة في الوقوف مُنتصف الشارع لأن شيئًا ما يَكسر خاطرهم.. إنه حظ اليأس، بأن لا يكون للسائق مَاضٍ يُذكره بِعبرة، ولا مُستقبل يُحذره مِن السِجن أو الغرامة.. وبغض النِظر عن ذلك، كونديرا مُحق، لقد جربت الأمر، امتطيت دراجات نارية مِن أنواع مُختلفة، والنَتيجة: الرغبة المُستمرة في الضغط على مِقبض البِنزين حَتى آخره.

تبعًا لذلك، أكتشف قبل أن أصل للمَنزل الأمر التّالي: إنَّ تِزايد سُرعة الدّراجة تتناسب طَردًا مَع مدى حُزني وقَلقي، وكذلك سَعادتي وغضبي ونشوتي، وتَفكيري بِصديقتي التي أُحبّها. كُلَّها أُمور تَزيد مِن السُرعة بِشكلٍ خَطير، إنَّها الرغبة في الانفصال عَن كل شيء، الرغبة التّامة بالاختفاء، الرغبة التي تَنتابك قَبل النوم، وعندما تَتعب من نفسك، والاختفاء الكُلّي عند الخجل مِن أَمرٍ قُمت به، وقتما تَشعر بالغثيان في سِيّارة الأُجرة وأَنت في مِنطقةٍ مقطوعةٍ، ولا يُمكنك سوى إلقاء ما في مَعدتك على رقبة السائق أو الاختفاء.. والاحتمال الأول هو الاحتمال الدّائم الحصول. أَمَّا عَن الثاني فليس باستطاعتك الإحساس به إلا على دراجتك النّارية، أو.. يا للروعة! في السينما.

 

ثلاث ساعات أُحدث صَديقي عن الفيلم، وساعة وأنا أُفكّر حول الفيلم القادم الذي سأكتب عنه، وسَاعة لأقرر ماذا سأُشاهد عند عودتي، وساعات من قراءة ودراسة مُحاضرات في السينما وتاريخها

إنها الدّراجة النّارية الثابتة التي تُحقق لك رغبة ألا تَكون موجودًا، إنّ جَسدك في الحَالتين سَيصير شفّافًا بِشكل تَدريجي حَتى يَتماهى مَع ظلام القاعة تَمامًا. لا شيء سوى الشاشة التي أَمامك، والبكرة من خَلّفك وهيَ تَلتف على بَعضها وتَعرض لَك اقتباسات بصرية تُنسيك تَمامًا رغبتك بالانتحار أو الغرق أو الزواج أو ضرب جارك المُزعج. كل ذلك يَجري ضمن صندوقٍ يُشطَب بهِ أيِّ احتمال للزمن والمَكان، والغَثيان ورقبة سائق الأُجرة.

 

أَيُمكن لأيّ شيء.. أيِّ شيء أَن يَكون أكثر شاعرية مِن تِلك التّجربة؟ أسأل نَفسي وابتسم ابتسامة صِبيانية مؤامراتية، دون أَن يدرك أَحدهم أنّي اكتشفت للتوّ أسبابًا تَزيد تَعلقّي بالسينما، أسبابًا تَجعلني عُنصريًا مُبالغًا، ومراهقًا ومُفكّرًا وكهلاً وطِفلاً عند الحديث عَنها. وأَشعر للتوّ أنّي مُتخم بِها حتى النخاع؛ عدّة ساعاتٍ في السينما، ساعة عند باب الانتظار وأنا أتفرس الحيرة التي تُعربش وجه الموظف الذي يَقطع لي التذكرة الثالثة للفيلم نفسه. وثمَّ؟

 

ثلاث ساعات أُحدث صَديقي عن الفيلم، وساعة وأنا أُفكّر حول الفيلم القادم الذي سأكتب عنه، وسَاعة لأقرر ماذا سأُشاهد عند عودتي، وساعات من قراءة ودراسة مُحاضرات في السينما وتاريخها ونقدها وفلسفتها وأحجام عدسات الكاميرة، والكادرات وتوزيع الإضاءة والصوت والموسيقى التصويرية وتَباين الألوان وأحجام بكرات التسجيل، وسيكولوجيتها وسيسولوجيتها وكل مُصطلح مرتبط بِها يَنتهي بِجيم وياء وتاء. حَتّى يَمتلأ يومي كلّه، ويَغدو العالم من أمامي مَحض مشاهد سينمائية مملة وممتعة.

أَتذكر أثر هذه التُخمة مُمتنًا بينما أقلب التِلفاز إلى روتانا سينما، إنه فيلم "البنات عايزة إيه" لا أُحبه، لَكني سأشاهده لأجل محمود عبدالعزيز. أنسى كل شيء فَكّرت به في طريقي، أنسى سعادتي وحُزني: سَعادتي بِأنَّ مَكانًا في هذا العالم أنتمي إليه. وحُزني، بِأن اكتشافي لهذا الانتماء كانَ يتبعه دائمًا اكتشافي بأنّي لَم أنتمِ يومًا لشيء أو مَكانٍ ما، وأن احتمالاً بالتّعفن والحزن سيظل قائمًا في كل الأمكنة لولا خدعة السينما وعزاءاتها؛ احتمال أن أتعفن هُنا في مَكاني حزنًا على شيء ما، أتعفن في الغرفة والجَامعة، أتعفن على أسفلت المدينة، وعلى عنق ذُبابة وبين منقار عصفور وعلى ظهر نعامة، وتحت إبط فرس نَهر يَمر من شارعٍ يَبعد عن السينما بضعة أَمتار فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.