شعار قسم مدونات

صرخت المدرجات حينما صمتت الشوارع.. "في بلادي ظلموني"!

مدونات - في بلادي ظلموني

في المغرب صرخت المدرجات حينما صمتت الشوارع، تلك الشوارع التي تم قتلها تماماً، والتي كانت قد اشتهرت ابان بداية الثورات الشعبية التي عُرِفت إعلامياً بثورات الربيع العربي، ربيع الحرية وحلم الديمقراطية. من المعلوم أن الثورات طوال التاريخ البشري تمر بفترات ومراحل انتقالية لا يُميزها سوى حالة من الشد والجذب بين الفاعلين الاجتماعيين. والحراك السياسي الذي يتكوّن ويتشكّل ويمر في فترة قصيرة لا يجب أن نطلق عليه ثورة، هناك من يطلق عليه هبّة، وآخرون يطلقون عليه انتفاضة، ولكن أين يندرج ما حدث في المغرب مؤخراً من هتاف للجماهير؟

هتفت جماهير الرجاء في الدار البيضاء قبل أيام ولأكثر من مرة في مدرجاتها بأُغنية في "بلادي ظلموني" ما أثار ردود أفعال اختلفت ما بين توجس حكومي وتعاطف الجماهير والشعوب في المغرب والمشرق، ويمكن وصف ما فعلته جماهير الرجاء بأنه في الوقت الذي صمتت فيه الشوارع بعد ثورات الربيع العربي؛ أتت المدرجات لتصرخ بدلاً عنها، ولكن لماذا المدرجات؟ في "المركب الرياضي محمد الخامس" المشهد المُكرر أضحى استغلال الجماهير للحدث الرياضي وظروف التجمهر "المسموح" للتعبير عن الأوضاع السيئة التي تُعانيها الشعوب، خاصة الشباب.

تغنت الجماهير وهتفت بصورة بكائية، إذ تحمل الاُغنية بين كلماتها كمية مآسي تتلخص في المعاناة، وتنتقل للألم والحزن والضياع، وتنتهي بالشكوى لرب العالمين. أغنية في بلادي ظلموني تغنت بها الجماهير في داخل المغرب، ولكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال فصل هذا الحدث وهذا الحراك الشبابي عن السياق الجغرافي والاقليمي للمنطقة عامة، ويمكن إسقاط الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي عليه، وقد عبرت كلمات الاُغنية عن ذلك.

ولكن هذا الحدث لا يُمثل فقط هتاف لجمهور نادي رياضي خلال مباراة كرة قدم. في الحقيقة، لا يجب أخذ الأمور بهذا التبسيط، ما نوّد قوله هو أن هذا الأمر يُمثل حدثاً مهماً وتاريخياً يجب الوقوف عنده ومحاولة التعمق فيه والإلمام بجوانبه المختلفة. بكلمات أخرى، لابد من طرح أسئلة جوهرية على أنفسنا: لماذا كانت المدرجات هي الحاضنة لهذا الحراك؟ أو فالنقل لماذا الحدث الرياضي وما هي مضامين الكلمات؟ أي رسالة تحمل؟ وهل يمكن أن تنتقل هذه الظاهرة لملاعب أخرى؟ هل يمكن أن تصل الهتافات إلى الشعوب الأخرى؟

حالة من التضييق والقمع مارستها، ولا زالت تمارسها السلطات الأمنية في كل بلدان المنطقة التي في مرحلة ما قبل الثورة كإجراءات احترازية مضادّة للثورة.

من المؤكد أن هتاف جماهير الرجاء، يعبر عمّا آلت إليه أوضاع أكثر الفئات الاجتماعية أهمية وهم الشباب، ليس فقط في الدار البيضاء، وإنما في بلاد العالم الإسلامي والعربي وحتى الإفريقي. الواقع الذي يُلخصه موت الآلاف سنوياً في البحر الأبيض المتوسط هرباً من جحيم حكوماتهم إلى جنان أوروبا، والتساؤل البديهي هنا ما الذي يدفع شاب في مقتبل العمر لركوب رحلة لا تحمل من الاحتمالات غير اثنين؛ إما الوصول أو الموت، هذا الأخير هو أقرب ما يكون. إن تفسير الظاهرة لابد أن يتجاوز أبجديات عوامل الهجرة التقليدية، والمتعلقة دائماً بعوامل الطرد والجذب الاقتصادية. صحيح، ولكن أكثر من ذلك هو الإذلال الذي نشعر به نحن الشباب في بلداننا، أكثر من ذلك القهر، أكثر من ذلك الموت البطيء الذي نُحسه، كل يوم ننوم في حالة موت، ونستيقظ ونحن موتى.

حالة من التضييق والقمع مارستها، ولا زالت تمارسها السلطات الأمنية في كل بلدان المنطقة التي في مرحلة ما قبل الثورة كإجراءات احترازية مضادّة للثورة، وهامش الحرية المتروك لا يخرج من المساجد ودور العبادات وساحات الرياضة وبعض المسارح والتي لا يُسمح لها بعرض مادة تناهض، أو على الأقل تخالف الأيديولوجيا السائدة. هامش الحرية هذا سماه دي "لابويسيه" العبودية المختارة في مقال له يحمل ذات العنوان، يُناقش المقال فكرة مركزية وهي هل الحرية مطلب مركزي للإنسانية؟ والفكرة التي أراد أن يسوقها هي أن حالة القمع الشديد تدفع الفرد لينأى بنفسه ويختار عبوديته، تلك العبودية التي لا تخرج من: التركيز في معاشه والذي يأخذ أغلب وقته، والتمسك بالعبادة والتي تمثل له الجانب الروحي، ويمكن إضافة الوله بمباريات كرة القدم.

إذاً، لا وجود لشيء غير كرة القدم كمُتنفس للجماهير، حتى أضحت هي الرياضة ذات الشعبية الأكبر، أو رياضة الفقراء كما يُسمونها. فليس هناك حدث يجمع أعداد كبيرة من البشر في مكان واحد، لدرجة يجمعهم شعور بالانتماء والهوية المشتركة غير مباراة كرة القدم، وحتى حكومات المستبدين أصبحت تتبنى الفِرق الكبرى وتُمول المنافسات كجزء من إجراءات وضع اليد على كافة المؤسسات التي يمكن أن تشكل لها خطراً وجودياً، حتى الشكل المنظم للجماهير المسمى "بالالتراس" تم اختراقه من قِبل السلطة، وتسييسه.

ولكن، مع هذا التضييق، لم تضع قوى الأمن في الاعتبار أن هذه الجماهير التي ستأتي لمتابعة مباريات فريقها، تأتي من صلب الشعب، وتمثل الفئة أو الطبقة الاجتماعية الأدنى، كما أن جُلّهم أو نسبة كبيرة منهم من فئة الشباب المطحونين بفعل الظروف الاقتصادية والاجتماعية. هذه الجماهير تحاول أن تبتكر وسائل تشجيع غير تقليدية، هي تنتج في الحقيقة أهازيج لدعم لاعبيها، وفي نفس الوقت تواجه بضغط الظروف، لذلك كان السبيل هو مزج التشجيع والاحتجاج بصورة أنتجت هذا الفعل الرياضي أو الحراك السياسي.

الثورة تبدأ بفعل ثوري مُلهم، وليس بعيداً؛ فبداية ثورات المنطقة العربية كان بفعل ثوري تمثل في واقعة شاب تونسي فضّل حرق جسده على الظلم والقهر والإذلال، فكان ذلك الفعل الثوري الملهم الذي انتقل كالعدوى إلى عدة بلدان والتي يجمع بينها واقعاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً مشابهاً. تلك الشرارة اسقطت فيما بعد أعتى المستبدين الذين عذبوا شعوبهم عقوداً طويلة من الزمن. من المعروف أن الثورات تستمر لفترات طويلة تمر خلالها بمراحل عديدة من شد وجذب وصعود قوى وأفول أخرى وهكذا. واقعة جماهير الرجاء البيضاوي لا يمكن فصلها عن المحيط السياسي والاجتماعي، فالمغرب من الدول التي لم تقطع فيها الثورة شوطاً كبيراً، وتأتي هذه التعابير والأهازيج المدوية ضمن تطور الثورة في ذلك البلد على المستوى المحلي وأيضاً ضمن موجاتها ومراحلها على المستوى الاقليمي.

ما نود قوله هو يجب فهم الفعل "السياسي" لجمهور الرجاء كبداية لموجه ثانية ربما ستضرب دول المنطقة خاصة تلك التي لم تستمر فيها الثورة التي بدأت قبل ثمانِ أعوام. سيما وأن الأغنية لاقت انتشاراً سريعاً، ورواجاً بصورة أفضت إلى ترديدها من قبل أفراد وجماعات في مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مثير للإعجاب. هذه الموجة بدأت في التشكّل، ولكن لا يُعرف بالضبط متى ستصل الأمور لذروتها، ربما بعد أشهر أو بعد سنة أو عدة سنوات. كما كان البوعزيزي مُلهماً للجماهير في شوارع عدد من البلدان العربية، ربما تكون جماهير الفريق البيضاوي أكثر إلهاماً لجماهير أندية اُخرى في المحيط العربي والإفريقي ولا يستبعد حتى استنساخ الصدى الذي أحدثه البوعزيزي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.