شعار قسم مدونات

أحزاب العلاقات العامة.. ترويج مدني بقالب أمني

blogs إضراب الأردن

دأبت أجهزة أمنية رفيعة المستوى، في الدول العربية، والدول الغربية على استحداث غير مباشر لمؤسسة مدنية تتبع تصورات الأجهزة الأمنية وتروّج لأفكار تريدها للدولة، وتعمل على تثبيت فكرتها داخل مؤسسات المجتمع المدني، دون تدخل مباشر من المخابرات. وتجيء وظيفة ما يمكن لنا أن نسميه بـ"حزب العلاقات العامة" لترويج أفكار مدنية بقالب ديمقراطي برغبات أمنية، تتطلع إليها الدولة وتسعى إلى تحقيقها وزرعها وتكوين رأي عام محلي أو عربي أو عالمي عبر شخصيات اعتبارية يتم اختيارها أحيانا بدقة ومرات بخطأ جسيم تفشل تلك الشخصيات في إيصال ما تريده المؤسسة الأمنية كنتيجة طبيعية لسوء الاختيار من جهة ولفشل في الكاريزما الذهنية في إيصال الأفكار أو إجادة الحوار من قبل تلك "الشخصيات الاعتبارية".

كثيرا ما تقع مؤسسات أمنية "حساسة" في خطأ سوء الاختيار في هذا الأمر؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون وزير سابق مثلا أو عضو في مجلس نيابي، أو حتى من يحمل لقب صاحب "دولة" سابق يتسم بمواصفات التأثير على المجتمع بالقدر الذي تتطلبه "المهمة" المكلف بها، وبمعنى ادق هنالك الكثير ممن يحملون ألقابا يتسمون بسوء الطالع والحضور في مجتمعهم المدني المحلي، ولا يملكون أدوات التأثير المرجوة نظرا للذكاء الشعبي الذي بدأ منذ أكثر من ربع قرن يتسع أفقيا وعموديا، ويتمكن باحتراف تحليلي أن يقرأ ما بين السطور من جهة، وللنوايا المكشوفة في داخل هذه الشخصية أو تلك التي بات الشارع الشعبي يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب من جهة ثانية.

"حزب العلاقات العامة" بات علامة سياسية محتكرة على أجهزة أمنية حساسة في دول عربية عدة؛ ففي الأردن مثلا الذي اعتمد على هذا الحزب "حزب العلاقات العامة" قبل نحو 20 سنة ووظف له وزراء ونواب وأصحاب دولة سابقين، وزملاء في مهنة الصحافة ومثقفين، ووفر لهم الغطاء، إلى جانب التسهيلات في استحداث الموافقات الأمنية من قبل الحكام الإداريين، لإقامة مثل هذه النشاطات من محاضرات وندوات في عدة أمكنة في الجغرافيا الأردنية، وراح البعض من أعضاء حزب العلاقات العامة إلى الترويج لفكرة ما، أو رؤية سياسية ما بشكل خاطئ، ومكشوف عبر طروحات غير مقنعة بالشكل اللائق بذكاء الأخرين، الأمر الذي أدى إلى فشل مبكر لهذا الحزب بسبب الاستعجال (ربما) في الترويج لأفكار ما، اعتقدت تلك الأجهزة أن بمقدور شخصيات "حزب العلاقات العامة" إقناع الآخرين، بأسلوبهم الذي بات مستهلكا.

لا تحتاج فكرة ما تتبناها الدولة إلى كل هذا الكم من الإنفاق، وتوظيف النفاق، ولا تحتاج إلى كل هذا القدر من التفكير لطالما ان الفكرة ـ أي فكرة ـ تتوافق مع الشارع الشعبي

البعض من أعضاء هذا الحزب غير المعلن شعبيا، انتظروا خلال السنوات الفائتة مكافئة لهم من أجهزة الدولة على دورهم الماضي، وأقصد الترويج المفترض، والمكافئات هنا تجيء مغلفة مثل ورق السولفان على شكل "وزير أو سفير أو نائب".. إلا أن البعض وقع ضحية النقد الشعبي اللاذع، ووصل بعضهم حد الاحتراق السياسي الشعبي كنتيجة طبيعية لتسويق أفكار سياسية لا تتفق مع تطلعات الناس، ووقعوا جميعا دون ذكر أسماء مع علمنا المسبق بها، في هذا الفخ، بل ووقعوا ضحية العري الشعبي، بعد أن تكشفّت النوايا، في حين حرق وزير داخلية أسبق في الأردن، مراكبه حين استبسل في الترويج لأفكار تريدها الدولة لكن؛ جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، الأمر الذي تعّذر فيه الترويج، وتعثر فيه الحزب في تسويق أفكار متفق عليها مسبقا مع أجهزة أمنية، وكما هو حال وزير الداخلية المشار إليه، وقع نواب ووزراء وصحفيين ومثقفين في ذات الفخ والعري الشعبي.

لا تحتاج فكرة ما تتبناها الدولة إلى كل هذا الكم من الإنفاق، وتوظيف النفاق، ولا تحتاج إلى كل هذا القدر من التفكير لطالما ان الفكرة ـ أي فكرة ـ تتوافق مع الشارع الشعبي، ولها صلة مباشرة بالسيادة الذاتية البعيدة عن الإملاءات والاشتراطات الدولية من مثل "صندوق النقد الدولي" الذي يتدخل بكل شاردة وواردة في الشأن الاقتصادي الأردني بما في ذلك سياسة فرض الضرائب، التي أثقلت كتف الشعب الأردني بطبقتيه الفقيرة والمتوسطة، هذا إذا افترضنا أن للطبقة المتوسطة وجود على أرض الواقع، إذ تشير القراءات الاقتصادية والممسوحات الميدانية للمؤسسات المعنية بالأوضاع الاقتصادية في الأردن، إن الطبقة المتوسطة انتفت، ولم يعد لها وجود.

فشل "حزب العلاقات العامة" المتبوع للدوائر الأمنية في إيصال رسائله للمجتمع على نحو أفضل، بل وأصيب هذا الحزب بحالة من فقدان التوازن الشعبي، بعد أن تمكن الناس مبكرا من توظيف أدواتهم التحليلية والتخمينية، للوصول إلى كشف المخبوء في دواخل شخصيات الحزب وإبعادهم، ناهيك عن معرفة الناس عن حجم الفوائد التي جنوها سواء ماليا أو معنويا، او استحداث مسميات وظيفية لبعض الكتاّب الصحفيين، تجيء على شكل تنفيعات مالية بغطاء وظيفي، والأمثلة كثيرة ويعرفها الشارع الشعبي. بعد الإقرار غير المعلن عنه، بفشل الحزب غير المعلن عنه رسميا، تراجعت المؤسسات الأمنية عن فكرة الاستمرارية بمثل هذا الاتجاه، ووقفت على الأقل على الحياد في كثير من المفاصل الاجتماعية التي تهم المجتمع واكتفت، خلال السنتين الفائتتين بموقف المتتبع والمراقب عن "كثب" عبر الرصد لوسائل ومنصات التواصل الاجتماعي، وأحاديث تدور في المجالس والدواوين، لتبني بعد ذلك قراراتها وتقاريرها عبر تصور واقعي.

لم يكن؛ فشل حزب العلاقات العامة بالأمر السهل على المؤسسة الأمنية، لكنه كان في صالح الناس، الذين ملوّا وكلّوا من إعادة ديباجات المحاضرات والندوات عبر ألسن متشابهة إلى حد كبير، وصلت حد الاستنساخ في المفردات والجمل والتبجيل لمنجز لم يرضي يوما قناعات الناس وخاصة طبقة الفقراء ومن ينتمون إلى أندية الدخل المحدود، ممن يئنون تحت سياط الفقر وتغوّل الأسعار وثبات الدخل. البعد الفني للحزب ـ حزب العلاقات العامة ـ لم يلتقي أبدا مع مكونات المجتمع لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، كما قال لي زميل صحفي عضو في مجلس النواب الأردني، وأضيف على ما قاله الزميل لم يكن الحزب ببرنامجه على مساس مع حياة الناس، ولم يكن على دراية كافية بتفاصيل يومياتهم المعيشية، رغم ان عدد منهم خرجوا من رحم المعاناة واستقروا في قلب "النعيم" ليمتهنوا رفاهية التنظيّر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.