شعار قسم مدونات

الزّهر مختلف ألوانه والماء واحد!

blogs المجتمع الياباني

في الخليّة تتجمّع مكوّنات مختلفة لتتشكّل في عضويات عدّة ذات أشكال ووظائف متعدّدة وتنتظم ضمن وحدة بديعة متناسقة تعمل وفق برمجة مركزية دقيقة، هي أصغر وحدة حيّة تبدو ككتلة واحدة في حين أنّها تنوّع وثراء لا مثيل له وتفاعلات وتحوّلات عدّة بين الهيولي والنّواة وبين داخلها ومحيطها عبر غشائها نصف المفتوح نصف المغلق. تتجمّع الخلايا ذات الخصوصيّة في الشّكل والوظيفة لتؤلّف الأنسجة الّتي تكوّن الأعضاء المنخرطة في الأنظمة والمنضوية في وحدة الجسم. هي مليارات الجزيئات المختلفة، المتنوّعة، المتواجدة والمتفاعلة في جسم واحد يبدو واحدا متجانسا متناغما لم يكن ليكن بذاك الإبداع وينبض حياة لولا تفاعلاته الدّاخلية بين مختلف مكوّناته ولم يكن لينمو لولا عمليّات الهدم والبناء الّتي يعيشها في كلّ لحظة، ذاك هو الجسم أو الإناء فماذا عمّا احتوى؟ 

لا شكّ أنّ النفس والشخصية بسماتها المتجلّية هي محصّلة تفاعلات نفسية مختلفة وهي إن كانت توحي بوحدة معنويّة متكاملة فهي تخفي اختلافات جزئية وربّما صراعات وتفاعلات داخلية، ليبدو الإنسان في النّهاية كأنّه واحد مع أنّه كتلة من المكوّنات المختلفة، المتنوّعة والمتضّادة في بعض الأحيان. وإذا كان هذا الفرد، هذا الكائن المعرفي الاجتماعي بطبعه يتضمّن كلّ هذا الاختلاف والتنوّع فكيف حينما ينتظم في مجموعة من نوعه؟

الاختلاف والتنوّع أساس الحياة:

ما كنّا لنحصل على الماء لولا ارتباط ذرّتي الهيدروجين بذرّة الأكسيجين، ارتباط قوّي ومستقرّ وعلاقة وشيجة بين مختلفين لم يمنع حجم أحدهما أو كثرة الكتروناته من رفض الآخر، تلك الالكترونات ذات الشحنة السّلبية الّتي تدور حول محور نواة شحنتها ايجابية، تضادّ، ثنائية وقطبيّة هي أساس للتشكّل والانتظام والحركة، فلولاها لما كان ماء ولا كانت حياة ولا أضاء مصباح لينير العتمة ولا اشتغل محرّك ولا اكتشفنا فضاء رحبا متنوّعا يحتكم لنفس قانون ما اكتشفناه بالمجهر في المجال الأصغر. هو الاختلاف والتنوّع الّذي يضفي للصّورة ألوانها، إشعاعها وحركتها، فالأسود هو غياب لكلّ لون والأبيض هو حضورها جميعا وكلاهما يحملان معاني السّكون والموت. أن تكون حيّا هو أن تعي الأشياء وأن تقبلها باختلافاتها وألوانها فالحديقة جميلة كما هي بما فيها والزّهر مختلف ألوانه والماء واحد.

الاختلاف والتنّظيم:
يمكننا أن نكون مختلفين ضمن قواعد المشترك عليه والّتي لا تُفرض ولا تُسقط بل تنبع من رحم المجموعة. كما لا يمكننا أن نمارس إقصاء على آخرين، نرفضه قطعيا على أنفسنا

ككينونات فردية مختلفة عاجزة على تلبية كلّ حاجاتها الضّرورية بمفردها للاستمرار في الحياة فنحن في حاجة للآخر ومجبرين على أن نتنظّم ضمن مجموعات بتسميات مختلفة، عائلة كانت أو قبيلة أو مجتمع وهي وحدات قد جمعها مشترك متراكم وعقد معنوي للتّعايش يحدّد الانتماء الّذي يمنح للفرد سلاسة تلبية احتياجاته وإحساسا بالأمان. والمجموعة كالجسد، إن كانت تبدو وحدة فهي تحمل اختلافات وتنوّعا، فقوى الجذب والتّنافر والتّدافع والعلاقات الارتباطية بين أفرادها يمنحها زخما وديناميكية ويجعلها تحيا وتنمو.

فالاختلاف ضمن المجموعة الواحدة والقبول به يمكن أن يوظّف ويستثمر إيجابيّا وهو ليس بابا للفرقة والفتنة والفوضى كما يروّج لذلك بعض المستبدّين على منهج لا أريكم إلّا ما أرى. ويجب التمييز هنا بين الاختلاف الحاصل في سياق التطوّر الطبيعي للمجتمع وبين ذاك المصطنع والمزروع لنسف المشترك المتّفق عليه جمعيا، فالجسم مثلا وهو محصّلة تنظّم خلايا، أعضاء وأنظمة لا يقبل تواجد جسم غريب ضار أو خليّة سرطانية ويشغّل لأجل سلامته وتماسك وحدته ووجوده كلّ ميكانيزماته الدّفاعية.

هكذا إذا تكتسب المجموعات خصوصيات معيّنة تجعلها تختلف عن الأخرى وهي تحفّز التّعارف والتّلاقح كما في قوله تعالى في الآية 13 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". خصوصيّات وجب احترامها بعكس ما ترنو إليه العولمة المتوحّشة الّتي لم ولن تنتج سوى صدمات مفجّرة ومفتّتة للمجموعات والكينونات بحيث يسهل اكتساحها والهيمنة عليها بأقلّ التّكاليف. يمكننا أن نكون مختلفين ضمن قواعد المشترك عليه والّتي لا تُفرض ولا تُسقط بل تنبع من رحم المجموعة. كما لا يمكننا أن نمارس إقصاء على آخرين، نرفضه قطعيا على أنفسنا.

القبول بالاختلاف بين الماضي والحاضر:

تبقى المعضلة الحقيقية الّتي تعيشها مجتمعاتنا العربيّة والمسلمة، الغارقة في بحور من التخلّف، الممزّقة والمثخنة جراحا هي عدم قبولها للاختلاف بل واستحضارها من كلّ تاريخها المشرق بعض الجزئيات المثيرة للفرقة والخلاف، ليبدو التسلّط والاستبداد بالرّأي وغياب ثقافة الحوار وعدم القبول بالرّأي الأخر المختلف متجذّرا في الأفراد والمجموعات، فمازال البعض يصرّ على التّفكير بالأبيض والأسود في تطبيق عبثي لمعادلات صفرية مدمّرة ولا يخلو بلد عربي أو مسلم من صراعات وجودية مصطنعة ووهمية، هويّة ذات مضامين دينية، طائفية، عرقية، قبلية أو إيديولوجية تستنزف كلّ الطّاقة وتعيق أيّ تقدّم أو محاولة استنهاض.

هي حالة احتراب شبه مزمنة متجلّية أو كامنة قد تنطفئ جذوة نارها لوهلة ليقع النّفخ فيها من جديد وكأنّها طريقة للإلهاء عن مجابهة استحقاقات اللّحظة. ومن المجحف والمجانب للموضوعية والصّواب أن يرجع البعض تأزّم واقعنا إلى إرث قرون من التخلّف والاستبداد فيستحضرون انتقائيّا من تاريخ أمّة مليء بالإشراقات لحظات نكوصها وظلماتها والكثير منهم ينطلقون من نقطة الفتنة الكبرى وما بعدها ولا يبذلون جهدا في العودة إلى ما قبلها حيث لم تعرف البشرية مدنيّة مستنيرة مثل الّتي تحقّقت في المدينة المنوّرة وهو المثال الّذي يمكن الاستلهام منه ففيها تعايش الأوس والخزرج والمهاجرين، وتواجد العربي والفارسي والأعجمي وتساوى الأبيض والأسود ولم يُظلم فيها يهودي أو نصراني أو منافق، كان مجتمعا متنوّعا، ديناميكيا ينبض حياة ولم تجعل قوّة الحقّ الّتي كانت بيد أفضل خلق الله مستبدّا مقصيا لغيره أو مستعملا لحقّ القوّة المطلقة. بالسّراج المنير يمكننا أن نستنير، لنوظّف اختلافاتنا فيما يفيد وما قد يغيّر المصير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.