شعار قسم مدونات

هل نبحث عن سعادتنا في المكان الخطأ؟

blogs - السعادة

بلغ العالم اليوم درجة كبيرة من التطور والتغيّر على جميع المستويات، حتى غدا قرية واحدة اختلط شرقها بغربها شمالها بجنوبها.. اختلط برها ببحرها، جوها بأرضها..  تنام في تونس تستيقظ في موسكو، تشرب قهوتك في بيروت تأكل طعام الغداء في بنسلفانيا وتصلي في مكة، تُمسي في مرسليا.. تتعشى في القاهرة.. لتنام في تونس.. تطور رهيب عجيب يشيب له الوليد ويحتار معه اللبيب الكيس.. توفرت كل أسباب الراحة ولم يرتح الناس، سرعة رهيبة وساعات تمر على عجلة من أمرها وحيث صار كل شيء "فاست فود".. توفرت كل أسباب السعادة ولا سعادة إلا للقليل القليل..  السعادة؟ ما السعادة اليوم وأين نجدها..

السعادة يراها الفقير المعدم في المال الوفير.. فتراه يشقى الساعات الطوال من أجل دنانير قلال لا تكاد تفي لقيمات يقيم بها صلبه أو من يعول لينام مرهقاً.. نوم محروم منه ذوي المال الكثير الوفير.. ينام بالمُهدئ أو لا ينام.. حيث يرى السعادة هنالك في سِنة أو غفوة أو نوم عميق هادئ.. يدفع من أجلها ماله.. كل ماله.. ماله الذي وفر لابنه سيارة فارهة.. وسفر كثير.. ابنه الذي يعاقر الخمر حتى يغيب عن هذا الواقع ليعيش سعادة أو هكذا يعتقد ولو للحظات تطير به لمرحلة العته فاراً من اللاسعادة.. المال الذي وفر لابنته لباس كثير من أشهر الماركات العالمية لا يُواري أحيانا حتى سوءاتها.. هواتف نقالة.. إنترنت.. وسائل تواصل اجتماعي.. تبحث فيها عن علاقات مخملية أسطورية من مجتمع فرّت منه لما بين يديها.. باحثة عن السعادة.. فلا تجدها..

عجباً إذاً هذه السعادة من أسباب بسيطة هيّنة، لا مال وفير ولا رفاه كثير، لا أعناق مشرئبه ولا عيون مبحلقة على شاشة الموبايل في انتظار اللايكات ولا التعليقات، التي ترسم ابتسامة "فاست فود" على شفاه كالحة..

إذاً هواتف ذكية.. إنترنت.. ألعاب اتصالات.. سهرات.. تفاخر في الملبس والمأكل وتكاثر في الثمرات.. والملل، ملل يبحث عن سعادة لم توفرها الوسائل الحديثة، لا المال الوفير ولا الفقر المدقع، ولا التطور الرهيب. إذاً فما بال القرون الأولى لا مال إلا اللمم ولا رفاه إلا القليل القليل! ما بال أجدادنا عاشروا السعادة حتى ألفوها وألفتهم، أحبتهم الحياة وأحبوها.. كان جدي فلاحاً لم يبرح أرض الله، يأكل مما يزرع، ويلبس مما تخيط جدتي وتنسج من صوف نعاجها. وسعادته هنا، غنم وعصا يهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى.. سعادته في شجرة وارفة الظل ينام تحت ظلها حين يشتد الحر بعد غداء فاره "كِسرة" وقدح لبن وجبن "بلدي" وزيتونات سوداء مما ادخروا.. سعادته بعض نخل يهز بجذعها فتُساقط عليه رُطباً جنياً يأكل ويُهدي ويَدخر..

سعادته كانت حياة بسيطة، لا تطور فيها.. لا تلفاز يُذيع آخر الأخبار، فلا تفجيرات ولا صدامات ولا قنصليات داخلها مفقود. لا هواتف ولا إنترنت ولا وسائل تواصل اجتماعي.. تواصله فقط في دكان القرية مع عمار صديق الطفولة في "كتّاب" الجامع، أو مع الحاج علي الشيخ الذي علمه أول حروف القرآن، فيقف له تبجيلاً واحتراماً. تواصله مع عبد الستار صاحب الدكان الذي يحدثه فيصدقه، تواصل اجتماعي حقيقي لا افتراضي. رغم ذلك لحق السعادة ولحقته، يرجع لبيته سعيداً طيب النفس فيُرضي نسله وزوجه، التي تستقبله راضية مستبشرة سعيدة. حياة بسيطة حقاً وجدوا الحياة فيها والسعادة كامنة في تفاصيلها البسيطة العميقة.

في قصة سردها خطيب الجمعة في جامع القرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل الدعوة وهم الأمة وثقل المهمة، الوحي.. يفكر فيمن كان قبله.. في أهله وصحبه.. في أناس لم يراهم بل سيأتون من بعده ليسوا من صحبه سيصدقونه دون أن يروه. يفكر في الحجاز وأهله، في مصر التي له فيها نسب وذمة، في صحبه إلى الحبشة التي بها ملك عادل. يبحث عن أمنهم وأمانهم، فيمن يأتي من أصلاب قوم كفرة أرسلوا صبيانهم ومجانينهم يرمونه حجراً حتى يدمى، فيرميهم بالدعاء. وقد جاءه ملك الجبال يسأل إن أراد أطبق عليهم الأخشبين، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً.. رغم كل هذه المحن لم تثنه على يكون بشوشاً مشرقاً بسّام لا عبوساّ قمطريراُ، يُدخل البهجة حيثما حل، لا يرفع صوته على صغير ولم يلعن أو يضرب زوجاً، بل بالعكس يُسابق زوجته، فتسبقه حيناً ويسبقها، فيتبسم وتبتسم سعادة.

عجباً إذاً هذه السعادة من أسباب بسيطة هيّنة، لا مال وفير ولا رفاه كثير، لا أعناق مشرئبه ولا عيون مبحلقة على شاشة الموبايل في انتظار اللايكات ولا التعليقات، التي ترسم ابتسامة "فاست فود" على شفاه كالحة.. للمتأمل فيما سلف وما يعرف، يرى أن المال لا يصنع سعادة حقيقية، بالرغم من أنه والبنون زينة الحياة الدنيا. بعض حالات ومواصفات للسعادة سردت في هذه الحكايات القليلة والتي منها الكثير الكثير، والتي قد يستقبلها من يقرأ هذه الكلمات ولسان حاله يقول بعد تنهد "ياحسرة" لو يرجع ذلك الزمن الجميل، حيث البساطة والطمأنينة وراحة البال، التي نعتقد أنها اللبنات الأساسية للسعادة، محورها الإيمان العميق بالوجود ورب الوجود، وبكتاب أنزله الله فيه شفاء لما في الصدور.

فإذا شفت الصدور توفرت الطمأنينة وحلت راحة البال بديلاً للتعاسة، وحلت بدلاً من الشقاء سعادة صرنا نُنشدها اليوم في غير موضعها متماشيين مع تطور رهيب، لا ننبذه ولا ندعو للعزلة ولا اعتزاله ولكن لمسايرته وترشيده. وذلك حتى لا نسير وراء الأوهام، بحثاً عن السعادة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.