شعار قسم مدونات

هل يكون الإسلام وراثيا أم استدلاليا؟

blogs قرآن

إن النزوع نحو التدين غريزة ملازمة للإنسان، حتى قال بعضهم: "حيتما وجد الناس يسكن الدين"، فالدين والإنسان وجهان لعملة واحدة، لا يستغني أحدهما عن الآخر فمهما حاول هذا الإنسان من إزاحة الدين من الحياة لن يستطيع ذلك، لأنه في حاجة للإجابة على أسئلته الوجودية الملحة من قبيل: لماذا نحن هنا؟ ما الغاية من هذه الحياة؟ من خلقنا؟ ما مصيرنا بعد الموت؟ فهذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها جوابا شافيا خارج إطار الدين، فمن هنا جاءت الأجوبة الشافية عن طريق الرسالة السماوية الخاتمة، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نتساءل هل يكون المسلم مسلما عن طريق المجتمع أم بالاستدلال؟

لا شك أن قضية الإيمان بالله تعالى من أهم القضايا الكونية التي تشغل أهل العقول على الإطلاق، ولا يليق أن تبنى على قواعد هشة أو مجاملة أو مغالطة ومنطق ضعيف، فكما هو معلوم أن المسلم يكون مسلما عن طريق الفطرة، وقد تضافرت الأدلة في بيان ذلك فمن القرآن قال الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ومن السنة المطهرة قول النبي عليه الصلاة والسلام: "‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"‏‏‏، وقد ذهب جمهور العلماء على أن المراد بالفطرة هنا هي الإسلام.

من هنا يتضح لنا أن البيئة لها تأثير كبير في توجيه الإنسان، لكن الله سبحانه بحكمته أحاط هذا الإنسان الضعيف بالآلآف من الحجج والبراهين الساطعة في الآفاق والأنفس على ضرورة وجوده، والإيمان به واتباع رسله، لذلك كان العقل والحرية شرطا التكليف في الإسلام، لكن هذا الإسلام الفطري إذا انعدم فيه الاستدلال والتعقل يبقى صاحبه مقلدا جامدا على آثار من تلقوا الموروث بلامبالاة، قائلا بلسان حاله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)، وهذه هي الأبائية التي جاء ذمها في القرآن، فقد رد الله سبحانه على هؤلاء المشركون الذي تذرعوا بهذه الذريعة الواهية قائلا: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

المسلم عن طريق الوراثة يكون إسلامه هشا مبني على جرف هار ، وصاحبه يكون سهل الاصطياد في بحر الشبهات والشكوك، لذلك دعى القرآن المسلم للتفكر والتدبر والتعقل

إن الأبائية هي الاعتقاد المطلق في صواب ما ذهب إليه الآباء من دون تفكير ولا مناقشة أو نقد، والانقياد التام لذلك في القضايا الحياتية، وقد جاء القرآن حاسما مع هذا الفكر اللآبائي العقيم المبني على التسليم بدون نظر ولا تفكر، مما يؤدي بنا إلى تكرار نفس الأخطاء التي وقع فيها الأجداد ، لكن هذا لا يمنع من الاستفادة من موروث الأجداد واحترام ما قدموه دون رفعهم إلى مرتبة التقديس التي تنتج إلغاء التفكير وقولبة العقول. من هذا المنطلق يتبين لنا أن المسلم عن طريق الوراثة يكون إسلامه هشا مبني على جرف هار، وصاحبه يكون سهل الاصطياد في بحر الشبهات والشكوك، لذلك دعى القرآن المسلم للتفكر والتدبر والتعقل في العديد من الآيات فقال الله عز وجل في مواضع كثيرة:

(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) – (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) – (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) – (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، وهذا هو إيمان الأنبياء والمرسلين والعلماء الراسخين الذي يحصنهم أمام الابتلاءات والشدائد والفتن، وفي هذا الصدد يقول بن باديس رحمه الله: (هذا الإسلام الذاتي هو الذي أمرنا الله به في مثل قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)، فبالتفكير في آيات الله السمعية وآياته الكونية وبناء الأقوال والأعمال والأحكام على الفكر، تنهض الأمم فتستثمر ما في السماوات وما في الأرض وتشيد صروح المدينة والعمران.

إن ما سماه بن باديس هنا بالإسلام الذاتي هو الذي يكون فيه المسلم فاعلا لا مفعولا به ولا متفاعلا، فيقدم الإضافة المرجوة لبلده وأمته، عكس الإسلام الوراثي الذي يكون بدون نظر ولا تفكر ويغلب على صاحبه العاطفة، وهذا النوع الثاني هو المهيمن على السواد الأعظم من الأمة اليوم، وأصحاب هذا الاتجاه هم من يسهل اصطيادهم في نهر الالحاد والظلمات، وهذا راجع لأنهم أخذوا الإسلام كما وجدوه بكل ما فيه من عقائد باطلة وعادات قبيحة وممارسات شنيعة، فهذا الإسلام المبني على الجمود لا يمكن بحال من الأحوال أن تنهض به الأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتنقح أنظارها.

نحن هنا لا نتكلم من فراغ، فالأنبياء أنفسهم سألوا الله عز وجل، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي وصفه الله بالأمة القانت الحنيف المسلم الأواه الحليم لقوة إيمانه ويقينه، وجد نفسه يسأل ربه علانية (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ)، فجاءت الإجابة الإلهية سلسة هادية بعيدة عن التعنيف والزجر فقال سبحانه: (أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِ)، فقد علم الله عز وجل صدق إيمان أبراهيم، لكن سؤاله هذا كان سؤال للهداية والتوجيه لمن بعده بأن هذه الأسئلة طبيعية ومشروعة، وليست قادحة في الإيمان.

 

إسلام العجائز -إن صح التعبير- يكون أضعف من الإسلام المرتكز على بينة وتفكر وتدبر، لهذا نلاحظ أن الذين يولودون في بيئات غير مسلمة، ثم يعتنقون الإسلام يكون إسلامهم أقوى وأمتن
إسلام العجائز -إن صح التعبير- يكون أضعف من الإسلام المرتكز على بينة وتفكر وتدبر، لهذا نلاحظ أن الذين يولودون في بيئات غير مسلمة، ثم يعتنقون الإسلام يكون إسلامهم أقوى وأمتن
 

وهذا موسى عليه السلام الذي ذهب أبعد من ذلك وطلب رؤية خالقه فقال (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ) ولأن البشر ليسوا في مرتبة تمكنهم من استيعاب ما فوق قدرتهم جاء جواب الله عز وجل (قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، إن في هذه الآيات بينات لأولي الألباب تخاطب العقلاء مؤكدة على هذه القاعدة المحكمة (عدم إدراكنا للشيء لا يعني عدم وجوده).

إن إسلام العجائز -إن صح التعبير- يكون أضعف من الإسلام المرتكز على بينة وتفكر وتدبر، لهذا نلاحظ أن الذين يولودون في بيئات غير مسلمة، ثم يعتنقون الإسلام يكون إسلامهم أقوى وأمتن ممن ولدوا لأبوين مسلمين، وذلك أنه استجاب لفطرته وعززها باليقين القلبي والاقتناع العقلي، ولا يفهم من هذا الكلام أن الإسلام الوراثي باطل أو غير صحيح، فهذا لا يقوله عاقل، لكنني أردت أن أوضح هنا فريضة التفكر والتدبر التي دعانا الله للقيام بها.

إن الشخص سواء كان مسلما وراثيا أو أسلم بعد كفره مطالب بالتفكر والتدبر، كل حسب طاقته وإمكاناته، فلا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها، ولا يخفى على أحد أن العقول والمدارك تتفاوت، فليس جميع الناس على قدر واحد من الفهم والاستيعاب لذلك جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم صريحا في هذا الباب بقوله في ما معناه: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.