شعار قسم مدونات

تعلم أن تقول لا!

blogs الحق في الرفض

منذ مدة تعاقدت مع شاب من أجل أن يقوم بعمل معين كل أسبوع، طلب مني الأجر قبل انتهاء العمل الشيء الذي قدمته له دون تردد لأن الثقة مهمة في هذه الأمور ومن أجل نجاح أي تعاقد. لكن الشاب توقف عن الرد على اتصالاتي ورسائلي رغم أنه لم يقم إلا بـ 75% من العمل مع تأخير كبير في كل المراحل التي مر منها والذي كان يبرره بانشغاله الدائم ومشاغله الكثيرة جدا والتي كنت غالبا أتفهمها رغم أن الزبون عادة لا يهتم بما يدور في المطبخ الداخلي ولا يهمه سوى النتيجة النهائية للعمل.

 

على أي لست حاقدة عليه رغم أنه لم يرد على آخر رسائلي التي كلمته فيها بأدب جم مستفسرة عن الأسباب ومختلقة له ألف عذر، إلا أنني أشعر بنوع من الخيبة اتجاه شخص توسمت فيه خيرا كثيرا لكنه لم يف بوعده مطلقا وذاب كفص ملح دون أن يترك أي توضيح مع أن العمل كان مقابل أجرة وفِي ظروف جد ملائمة.. حزنت نسبيا لكنني فكرت أن الأمور كانت ستكون أفضل كثيرا إن رفض العرض عندما اقترحته عليه أول مرة، كنت سأتقبل الاعتذار بكل تفهم دون حاجة لأن يشرح لي الأسباب أو يبرر لي.. لو راجع استعمال زمنه فقط وارتأى أنه لم يكن قادرًا على القيام بعمل إضافي زيادة على الأعمال التي يقوم بها والتي تثقل كاهله وأخبرني بكل ثقة أنه لا يمكن له أن يقبل لأنه يخاف أن يعجز عن ذلك ويفقد ثقة زبون، كنت سأكون أسعد مقارنة مع الخيبة التي تلقيتها.

 

تذكرت الكثيرين ممن لا يفون بعهودهم، من يتصلون بعد نصف ساعة انتظار ليخبرونا أن المجيء تعذر عليهم لأسباب مبهمة، من يقفلون هواتفهم في مثل هذه الحالات دون أي شرح، من يعدون بالحضور أو المشاركة أو التبرع  أو العمل والحماس يتطاير من أعينهم لكنهم لا يفون بشيء مطلقا لسبب وحيد هو أنهم لا يستطيعون قول "لا" عندما يكون عليهم قولها مع أنها كلمة في غاية السهولة، لين نطقها، تقي قائلها الإحراج والوقوع في مواقف لا يحسد عليها وتقي متلقيها بناء صروح من الأمل الذي لا أساس له فقط لأن قائلها لم يستطع أن يقول لا في بادئ الأمر. كان باستطاعته أن يقولها بحياد تام "لا" "كان بودي فعل ذلك الأمر لكنني لا أستطيع"، "عذرا لا يمكنني فعل ذلك"، "في فرصة قادمة ربما، هذه المرة لا أستطيع". هذه كلها عبارات سهلة، واقعية وليس فيها شيء جارح مطلقا لمتلقيها بل تجنب كلا الطرفين الكثير من الحرج. 

 

لا تخجل من قول "لا" في الوقت المناسب ولا توهم الناس بشيء أنت تعلم سلفا أنك لن تستطيع القيام بِه لأن ذلك سيعطي عنك انطباعا سيئا خصوصا وأن الناس يحبون أن يتكلموا مع غيرهم عن خيباته

أخبرتني صديقة أنها قضت شهورا تحضر لحدث شبابي، لم تكن تنام إلا ساعات قليلة كل ليلة، راسلت الكثير من الممولين ورجال الأعمال وزارت مكاتبهم رغم ما كانت تتعرض له من رفض في بوابات الشركات، لكننا استطاعت أن تضمن  الكثير من الوعود من مدراء عامين وشخصيات مهمة ورائدة تعد مثالا يحتذى به لجميع الشباب، كانت هذه الوعود مرفوقة ببسمة تؤكد لك أن صاحبها لن يخلف وعده مهما كان لكن سرعان ما اكتشفت أن ولا واحد منهم وفى بوعده في نهاية الأمر مما اضطرها، أياما قليلة قبل الحدث، لجمع المال من عند أهلها و زملائها في الصف وتقليص عدد الضيوف والمشاركين والورشات لأن الميزانية لا تسمح ولأن تلك الشخصيات التي تعد قدوة للكثيرين لم تستطع أن تقول لا ولم تستطع أن تفي بوعدها لطالبة كانت تتوسم فيهم كل الخير.

 

بينت دراسة قام بها مكتب Boston Consulting Group للدراسات والاستشارات منذ عشر سنوات تقريبا أن عدم ازدهار الاقتصاد العربي بصفة عامة يرجع لعدة أسباب منها انعدام الثقة بين الأفراد، رغم كل الثقة التي نتظاهر بأننا نكنها لبعضنا إلا أن العربي في غالب الأحيان سيفضل أن يمنح ثقته لشخص أجنبي إن تعلق الأمر بتجارة أو مال وأعمال لأنه يعرف أن تعامله مع بني جلدته سيسبب له خيبة بطريقة أو بأخرى. كلام قاس لكنه واقعي لأننا نعاني من متلازمة العجز عن قول "لا" عندما يكون لزاما علينا أن نقولها، لأننا وبكل بساطة بشر مهما أبدعنا لنا حدود يجب أن نكون واعين أشد الوعي بها. 

 

يجب أن نعي أن حفظ ماء الوجه لا يكون دائما بقول "نعم " وأن "لا" يمكن أن تحفظ الكثير من الحقوق وتكون أرحم في الكثير من المواقف بل مجملها لأن المتلقي عندما يسمع "لا" في البداية يمكن أن يبحث عن حلول بديلة ويستطيع أن يستثمر جهده ووقته في أشياء أخرى ستعطي أكلها عوض أن يبني صرحا من الأمل على أساس من الوهم والسراب. 

 

إن قول "لا" لا يقر أبدا بضعفك بل يقر بأنك شخص واع بما لك وبما عليك. إن عبارة "إن شاء الله" جملة جميلة تلهم الكثير من الراحة النفسية لكن لا تستعمها وأن تعلم مسبقا أنك لن تستطيع بأي حال القيام بذلك العمل أو الالتزام بذلك الموعد، فتلصق "إن شاء الله" بكلامك من أجل التمويه في الوقت الذي كنت قادرًا على تفادي الكثير من الخيبات وضياع مصالح العباد. 

 

لا تخجل من قول "لا" في الوقت المناسب ولا توهم الناس بشيء أنت تعلم سلفا أنك لن تستطيع القيام بِه لأن ذلك سيعطي عنك انطباعا سيئا خصوصا وأن الناس يحبون أن يتكلموا مع غيرهم عن خيباتهم، وفِي حالة قلت "نعم" بحسن نية وتبين لك فيما بعد أنك لن تستطيع الالتزام فاعتذر بكل بساطة، الاعتذار من شيم الكبار وقول "لا" لن يصغر منك شيئا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.