شعار قسم مدونات

أبرزها الحقد الطائفي.. لهذه الأسباب يدور كل هذا الصراع حول صلاح الدين الأيوبي

blogs صلاح الدين الأيوبي

اعذروني إذا قلت أنني لم أتوقع تطاول أحد على رجل عظيم من رجالات التاريخ في أمتنا، واعذروا دهشتي مما قاله الممثل عباس النوري في لقاء له على إحدى الفضائيات: أن صلاح الدين كذبة كبيرة. وفاجأني حين البحث أن عباس ليس الأول، فقد سبقه الكاتب يوسف زيدان وعلى إحدى الفضائيات حيث وصف صلاح الدين بأنه أحقر شخصية في التاريخ. واستعدت قضية اغتيال المخرج العربي الكبير مصطفى العقاد في الأردن 9 نوفمبر 2005م وهو يحضر لفيلم بعنوان "صلاح الدين الأيوبي" الذي قال عنه: "صلاح الدين يمثل الإسلام تماماً، الآن الإسلام يصور كدين إرهابي، حصل الدين كله على هذه الصورة بسبب وجود عدة مسلمين إرهابيين، إذا كان هناك دين ممتلئ بالإرهاب، فيمكن قول ذلك عن المسيحية أيام الحملات الصليبية. لكننا في الواقع لا يمكننا لوم المسيحية كدين بسبب مغامرات بعض أتباعها آنذاك. هذه هي رسالتي" هل كان المقصود في هذا الاغتيال العقاد أم صلاح الدين؟ وهل كان صلاح الدين مقصود بشخصه أم بفعله؟

 
ربما فسر البعض التهجم على صلاح الدين بأنه نتاج حقد طائفي بسبب قضائه على الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية في مصر بعد ان استمرت أكثر من 260 سنة، ربما كان هذا أحد الأسباب ولن نستطيع تجاهله وقد لمحناه في كثير من تصريحاتهم وكتبهم، وحتى لو اعتبرناه حقدا صليبيا مستشهدين بقول الجنرال الفرنسي غورو حين دخل محتلا دمشق ووقف على قبر صلاح الدين وركله بقدمه قائلا" ها قد عدنا يا صلاح الدين"، لكن هذا يبدو سذاجة فكرية تكتفي بالقشور دون الجوهر الحقيقي للمسألة. وقضية اغتيال العقاد ومنعه من انجاز رسالته في الفيلم الذي كان يخطط له، تجعلنا ندرك أن القضية أعمق من البعد الطائفي الذي لا ننكر دوره، ولمعرفة الهدف الحقيقي علينا ان نعرف صلاح الدين الايوبي أكثر، أو بالأحرى أن نعرف ما فعله صلاح الدين في حياته.

ماذا فعل صلاح الدين الأيوبي؟
ابتدأ صلاح الدين بالتعليم وعزل القضاة الشيعة وعين بدلاً منهم قضاة سُنّة ونشر العدل في البلاد واهتم ببناء الجيش وما يحتاجه من تدريب وعتاد، ثلاث سنوات كانت كافية لترسيخ أقدامه في مصر

بعيدا عن السرد التاريخي والدخول في تفصيلات موجودة في بطون الكتب التاريخية للراغبين بالتفصيل، سأكتفي بالحديث عن علامات فارقة في تاريخ هذا القائد الفذ. لم يكن صلاح الدين أكثر من قائد عسكري في ظل عمه شيركوه متميزا بعبقرية واضحة وهمة عالية ورؤية بعيدة الهدف، انتقل إلى مصر الفاطمية مع عمه شيركوه تلبية لاستنجاد شاور وزير حاكمها العاضد لدين الله لنصرته على الوزير المنافس ضرغام الذي استنجد بدوره بالصليبيين، وكان النصر حليفا لشيركوه وابن أخيه، وتسلم شيركوه منصب الوزارة في الدولة الفاطمية بكفاءة عالية الا ان المنية وافته بعد شهور قليلة ليؤول الأمر إلى صلاح الدين كوزير للعاضد في دولة شيعية اسماعيلية.

هذه كانت نقطة البداية في المسيرة العظيمة لصلاح الدين في اتجاه الهدف الذي وضعه نصب عينيه، بدأت مرحلة البناء في مصر وتنظيفها من الدنس الفاطمي وإعادتها إلى الدور الريادي في إطار المنهج القويم، لذلك ابتدأ صلاح الدين بالتعليم وعزل القضاة الشيعة وعين بدلاً منهم قضاة سُنّة ونشر العدل في البلاد واهتم ببناء الجيش وما يحتاجه من تدريب وعتاد، ثلاث سنوات كانت كافية لترسيخ أقدامه في مصر كقائد محبوب ووزير عادل، وبعد وفاة العاضد أعلن صلاح الدين نهاية الدولة الفاطمية وعودة مصر إلى الخلافة العباسية وأعلن نفسه أميرا على مصر تابعا للخلافة في بغداد.

ربما يكون هذا أقصى ما يصبو إليه قائد عسكري شاب أن يكتفي بإمارة كبيرة مثل مصر، لكن صلاح الدين كان طموحه أكبر وكانت الامارة بالنسبة له وسيلة لهدف أعظم، كان يتطلع إلى القدس الأسيرة بيد الصليبيين منذ أكثر من 90 عاما وهي تستصرخ همم القادة والأمراء الذين لم يكن لهم همٌّ سوى الحفاظ على عروشهم ولو دعاهم ذلك للتحالف مع الصليبيين ودفع الجزية لهم.

الأمة الممزقة:

ماذا يفعل صلاح الدين والأمة على امتداد جغرافيتها ممزقة ومشتتة وحالها أسوأ بكثير من حالها اليوم، الخلافة العباسية في أضعف حال ولا تتعدى سلطتها مدينة بغداد، وفي الشام ممالك وإمارات صغيرة يقودها ملوك وأمراء فاسدون، ففي حلب مملكة وكذلك في حماة وحمص ودمشق وبعلبك وشيزر ونوى وماردين والموصل وغيرها، وكذلك اليمن والحجاز، إمارات وممالك مستقلة ومتناحرة فيما بينها ولا تتورع من طلب النجدة من الصليبيين في حروبها البينية، والصليبيون استولوا على الساحل الشامي من انطاكيا إلى عكا بالإضافة إلى فلسطين وبيت المقدس وأقاموا هناك امارات قوية مدعومة من ملوك أوروبا وجيوشها. وضع يدعو لليأس، لا يجد فيها أشد المتفائلين بصيص أمل، لكن الإرادة والإيمان والعزم والتصميم أقوى من كل ذلك، ولا سيما مع قائد شاب مؤمن طموح ليس في قاموسه شيء اسمه المستحيل أنه صلاح الدين الأيوبي.

تحيّن هذا القائد الفرص المناسبة مستفيدا ليبدأ عمله في القضاء على هذه الممالك الفاسدة في بلاد الشام، ولم يطل الأمر كثيرا حتى بسط سيطرته عليها كاملة ووحدها مع مصر تحت ظل سلطانه ثم انتقل إلى اليمن والحجاز ليضمهما إلى دولته الوليدة. وهنا بدأ صلاح الدين يعدّ العدّة لخوض الملحمة الكبرى التي نذر حياته لها، فبدأ بإعداد الجيش إعدادا عقائديا بالتعاون مع فقهاء عصره وقضاته، والتفت إلى تصنيع السلاح اللازم لخوض المعركة بدءاً من السيف وانتهاءً بالمنجنيق والدبابة والكبش، تلك هي الأسلحة الخفيفة والثقيلة التي كانت معروفة ومستخدمة في زمنه، وما هي إلا سنوات عشر حتى كان على أتمّ الاستعداد للمواجهة مع الصليبيين ومن خلفهم أوروبا بكاملها.

 

وكانت حطّين المعركة الفاصلة 5 يوليو سنة 1187م، التي انتصر فيها صلاح الدين انتصارا ساحقا على ملوك وامراء أوروبا، فقتل منهم من قتل وأسر من أسر، في معركة استخدم فيها صلاح الدين كل أنواع الأسلحة والتكتيك والخطط، حتى انه استفاد من اللصوص لخطف القادة الصليبيين من خيامهم، وأصبح الطريق إلى بيت المقدس مفتوحا فدخلها فاتحاً بعد حصارها أسابيع قليلة وكان ذلك 2 أكتوبر سنة 1187م.

لا يريد أحد من أعداء الأمة وهم على أعتاب صفقة القرن أن تفكر الأمة بأن ما فعله صلاح الدين يوما ما يمكن أن يفعله الأحفاد اليوم
لا يريد أحد من أعداء الأمة وهم على أعتاب صفقة القرن أن تفكر الأمة بأن ما فعله صلاح الدين يوما ما يمكن أن يفعله الأحفاد اليوم
 

أكثر من سبعين معركة في تسعة عشر عاما من حياة صلاح الدين كأمير للدولة الأيوبية، رقم كبير وإنجاز عظيم لا يستطيعه الا قائد عظيم ذو همة جبارة وإيمان راسخ، لم تكن براعته العسكرية الفذة هي الشيء الوحيد الذي تميز به هذا القائد، فقد حفلت الكتب والمراجع بالأحاديث والقصص والروايات عن عدله وسماحته وتواضعه وكرمه وشجاعته وقوته وذكائه وتسامحه مع الأعداء قبل الأصدقاء، الكثير الذي لا يسعني ذكره في هذا المقال المتواضع، لم يقل هذا أصدقاؤه ومحبوه فقط بل حتى أعداؤه الصليبيون اعترفوا بهذا وقدروه حق قدره فقد قال عنه أشد خصومه ريتشارد قلب الأسد: "أنه أمير عظيم وأنه بلا شك أعظم وأقوى قائد في العالم الإسلامي"، كما تحدث التاريخ عن موقفه المشرّف من أسرى الصليبيين عسكريين ومدنيين حيث أطلق سراحهم وسمح لهم بالمغادرة إلى أوطانهم ولم يفعل ما فعله أجدادهم من مذابح في المسلمين حين دخلوا القدس قبل 90 عام، فاستحق صلاح الدين بجدارة أن يقال عنه "قل للملوك أن يتنحوا عن عروشهم فقد جاء آخذ الدنيا ومعطيها".

والآن لماذا صلاح الدين؟

لا يريد أحد من أعداء الأمة لهذه الأمة أن تنهض من سباتها الذي دخلت فيه منذ أكثر من قرن، وتزداد حالتها سوءاً يوما بعد يوم على أيدي حكامها الوكلاء، الذين يظنون أن سرّ بقائهم والرضا عنهم هو إبقاء الأمة على ما هي عليه من جهل وفقر وتشرذم وكبت وعسف وفساد وظلم، وحتى يتسنى لهم استمرار الحال إلى أمد بعيد كان لا بد من إقناع أبناء الأمة وأجيالها بأن هذا الواقع هو قدر وعليهم الاستسلام له راضين أو مكرهين، وحتى يكرّسوا هذا الحال عليهم بأن يقطعوا كل صلة لهم بالنقاط المضيئة بتاريخهم العريق، فاستهدفت الحملات الفكرية والتشويهية كل الشخصيات العظيمة في تاريخنا وكان منهم بطل حطّين، الذي بعث الأمة من موت سريري دام مئة عام وظنّ من ظنّ أنها النهاية.

 

ليأتي صلاح الدين وينسف هذه الأوهام ويحول رماد الأمة إلى جمر متّقد، ويبعث مواتها إلى حياة جديدة ويحقق معجزة في التاريخ خلال سنوات معدودة فقط، لا يريد أحد منهم وهم على أعتاب صفقة القرن أن تفكر الأمة بأن ما فعله صلاح الدين يوما ما يمكن أن يفعله الأحفاد اليوم وربما أكثر رغماً عن حقد عباس النوري أو يوسف زيدان أو أولئك الذين هم وراء اغتيال العقاد.

هؤلاء أهلي فجئني بمثلهم .. إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.