شعار قسم مدونات

هل تعيد السترات الصفراء هندسة الاقتصاد الفرنسي؟!

blogs السترات الصفراء

السياسات التي أقرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دفعت بالشارع الفرنسي إلى رفض هذه الزيادات والسياسات وخروجه إلى الشارع والتحرك بشكل عفوي وهذه الاحتجاجات التي عرفت بأصحاب السترات الصفراء تعبيرا عن السترات التي يلبسها المحتجون في الشارع الفرنسي أين بدأت بمقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن بلغت ذروتها بالآلاف المحتجين في الشوارع الفرنسية كلها.

أسباب الاحتجاجات:

بدأت احتجاجات باريس الأخيرة بعد إطلاق سيدة وناشطة فرنسية مقطع فيديو على حسابها في موقع فيسبوك تدعى جاكلين تتحدث في هذا المقطع نشر في 18 أكتوبر عن رفضها لسياسات الاقتصادية التي أقرها الرئيس الفرنسي مع الميزانية الجديدة لسنة 2019 أين ستكون زيادات في أسعار البنزين والضرائب التي لم تعد تتحملها القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي حسب رأيها ومن هنا بداة الاحتجاجات حيث لقي هذا الفيديو انتشارا كبيرا لدى العمال والفئات المتوسطة الفرنسية صدى كبير للتعبير عن الرفض لهذه السياسات التي جاءت بشكل تراكمي خاصة أن ماكرون لم يحقق ما وضعه من وعوود وعلى رأسها خفض معدلات البطالة التي لا تزال في حدود 9 بالمئة أي ما يعادل حول 3 ملايين عاطل عن العمل.

إلى جانب أسباب عديدة يمكن نضعها ونحددها كما يلي:
* ارتفاع في أسعار الوقود وخاصة البنزين بنسبة 3.9 سنت في اللتر الواحد وهذا في إطار ضريبة لخفض انبعاث الكربون وتدعيما للبيئة حسب تصريح الرسمي للحكومة الفرنسية لكنه في المقابل يعتبر زيادة لأعباء المواطن الفرنسي والذي يستخدم في الغالب إما سيارته للعمل أو وسائل النقل العمومي التي ستتأثر بشكل أساسي برفع قيمة التذاكر في هذه الوسائل وهذا يكلف زيادات في المصاريف الخاصة للمواطن الفرنسي بحيث تصبح التكلفة حوالي 300 يورو شهريا في قيمة النقل وحدها.

* خفض الضريبة على الأثرياء أو ما تعرف بضريبة الثروة وهذا في نظر المواطن الفرنسي إجحاف في حق المواطن العادي لأن هناك زيادات في الضرائب على منتجات أخرى متعلقة بالطاقة وهنا تظهر عدم التكافؤ الذي اعتمدته الحكومات الفرنسية منذ عهد فرنسوا ميتران أي الاعتماد على مبدأ التكافل ما بين فئات المجتمع.

ما يميز هذه الاحتجاجات أنها وقعت في داخل باريس التي تضم في معظمها دوائر تنتمي إلى الطبقة الغنية والوسطي وبتمركز أهم المؤسسات الحيوية الفرنسية والدولية

* اختلاف بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية من حيث الخدمات والمستويات المعيشية أن يحس المواطن في المناطق الريفية بضعف الخدمات مقارنة بالمناطق الحضرية وهذا ما أراد الرئيس الفرنسي ماكرون تداركه لكنه لم يستطع تحقيقه إلى غاية اليوم.

* خفض الميزانية الموجهة إلى التعليم والرعاية الاجتماعية وهذا بطبيعة الحال يزيد من غلاء المعيشة في ظل هذه السياسات التي ترى بأن الدعم ينخفض وهذا يؤدي إلى المزيد من المصاريف على عاتق المواطن الفرنسي أن كانت الرعاية الاجتماعية تغطي العديد من النفقات الاجتماعية خاصة في حالات البطالة والعجز والمرض والسياحة.

كل ما ذكر تعتبر أسباب مباشرة دفعت بالشارع الفرنسي أن يتحرك بشكل تفاعلي مع الدعوات التي أطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمحاربة هذه السياسة والتي أدت إلى انتشارها في بلجيكا أيضا وإن تحرك الشارع هناك متأثرا بموجة الاحتجاجات في الشارع الفرنسي.

طبيعة احتجاجات السترات الصفراء:

ما يميز هذه الاحتجاجات أنها وقعت في داخل باريس التي تضم في معظمها دوائر تنتمي إلى الطبقة الغنية والوسطي وبتمركز أهم المؤسسات الحيوية الفرنسية والدولية بل تمركزت في أهم شارع فيها وهو شارع شانزليزيه الذي يربط ما بين ساحة النصر ومتحف اللوفر في الجهة المقابلة مع وجود أهم المؤسسات الرسمية فيه وبالتالي الاحتجاجات لم تنطلق من الضواحي الباريسية كما هو معتاد بل من وسط باريس وقلبها النابض كما جاءت هذه الاحتجاجات في سياق غير منظم بمعني لم تتبنى أي حركة نقابية مطالب هذه المجموعات كما هو معتاد بل جاءت في شكل عفوي بعد التفاعل والاتفاق عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبالشكل السلمي أن يتم ارتداء السترات الصفراء كرمز تحضيري لمستخدمي حركة المرور وهذا الزي في حد ذاته جذب انتباه المواطنين وزاد من انخراط العديد خاصة الفئات الشبابية العاطلة عن العمل.

كما نلاحظ أن مطالب هذه الحركة الاحتجاجية كانت في إعادة النظر الخاصة بقوانين الزيادات في الضرائب أسعار البنزين إلى مطالب بتنحي الحكومة والرئيس من السلطة كمطلب أساسي أن أثرت هذه الاحتجاجات على حركية الاقتصاد والتجارة في فرنسا.

وبالتالي نجد أن التعامل الرسمي الفرنسي مع هذه المطالب غلب عليها شكلين:
الشكل الأول: رفض الرئيس الفرنسي المطالب ومراجعتها مما يعكس مضي الرئيس في سياسته وهذا يقابله رفض الجبهة الشعبية مع كسب تأييد الفئات الرأسمالية النشطة من أرباب أعمال ومؤسسات كبرى واعتبار ما يحدث غير مقبولا.

الشكل الثاني: غياب تفاعل المؤسسات الأخرى وخاصة البرلمان الذي لم يتحرك نوابه المفروض أنهم منتخبين من طرف الشعب لطرح استفسارات أو التفاعل مع الشارع الفرنسي لفهم المطالب وأبعادها أو احتواء الموقف.

أما من الناحية غير الرسمية فنجد أن الإعلام الرسمي الفرنسي لم يركز كثيرا على ما يحدث ولم يقدم التغطية الكافية أو ما اعتاد عليها في أحداث أخرى بما يقدم صورة بعدم الأهمية لهذه الاحتجاجات رغم ما بلغته من تخريب قوس النصر. أما النقابات العمالية والتي تعرف بالسترات الحمراء أن ترفع العلم الأحمر في احتجاجاتها فتحركها كان محتشما ولم تتحرك بشكل أساسي مثل ما اعتادت عليه وهنا توضع العديد من علامات الاستفهام حيث تريد أن تعرف ما ستؤول إليه هذه الاحتجاجات ومن بعد تتبنى قرارا وموقفا حسب هذا الوضع.

تبقي احتجاجات فرنسا الأخيرة مفتوحة على كل الاحتمالات إلا أنه ليس من المستبعد أن يتم تشكل خلية أزمة وتغير حكومي وتدخل البرلمان كوسيط لحل هذه الأزمة
تبقي احتجاجات فرنسا الأخيرة مفتوحة على كل الاحتمالات إلا أنه ليس من المستبعد أن يتم تشكل خلية أزمة وتغير حكومي وتدخل البرلمان كوسيط لحل هذه الأزمة
 
قراءة في تطورات الأحداث الاحتجاجية الفرنسية:

يعتبر البعض أن الاقتصاد الفرنسي في الآونة الأخيرة يواجه تحديات داخل الاتحاد الأوروبي بسبب انسحاب بريطانيا من جهة والتي أرادت أن تبني تصوراتها الاقتصادية بشكل مستقل عن الرؤية الأوروبية وفي المقابل القوة الألمانية التي تعتبر القاطرة الفعلية للاقتصاد الأوروبي أن حققت فائضا هذه السنة ما قيمته 275 مليار دولار ومن جهة أخرى نجد أن اليونان التي بدأت فيها احتجاجات منذ سنوات حول السياسات الاقتصادية اليونانية المتأثرة بالسياسة الأوروبية والتي انتهب بتدخل الأوروبي تتحمل تكلفته فرنسا وألمانيا.

 

في المقام الأول هذه المعادلة دفعت بفرنسا أن تقع كمدافع عن أطروحات الاتحاد الأوروبي والبنيوية الأوروبية الاقتصادية والأمنية في ظل مواجهة التفرد الأمريكي والقوة الصينية ومن جهة أخرى متطلبات الداخلية التي يطالب بها المواطن الفرنسي من دعم الاقتصاد وخفض البطالة ورفع الأجور حتى تتماشي مع التحولات الاقتصادية في ظل الزيادات الضريبية في كل سنة والتي تدفع على مستويين داخلي وخارجي.

فما حققه الاتحاد الأوروبي من تكامل اقتصادي خاصة قوة اليورو أصبح مهدد في ظل التحولات التي تعرفها أوروبا خاصة الموجة الأخيرة الفرنسية وتمددها إلى بلجيكا والمواطن الإسباني والإيطالي ليس بمعزل عن هذه الحركية ووصول اليمين في إيطاليا مؤشر على رغبة المواطن الإيطالي في تحقيق التغير في ظل التحولات الراهنة.

فسياسة الرئيس ماكرون التي انتهجها دعما للصناعيين والاقتصاديين وتخفيف الأعباء عنهم لدفعهم إلى المزيد من الاستثمار وكلها تصب في خانة التمدد العولمي يذهب ضحيتها في الغالب المواطن العادي إن لم نقل البسيط لأن العبء الضريبي سيقع عليه كنتيجة حتمية لدعم توازنات الاقتصادية الكبرى للدولة وميزانية الحكومة وهذا ما جعل إعادة النظر في السياسات الاقتصادية التكاملية من جهة ومن السياسات التكيفية من جهة أخرى مع مراعاة الظروف الداخلية وخصوصية كل اقتصاد في ظل تزايد المنافسة الدول من طرف قوى صاعة مثل مجموعة بريكس أو دول أخرى نامية كما هو الحال في أفريقيا.

وفي الأخير تبقي احتجاجات فرنسا الأخيرة مفتوحة على كل الاحتمالات إلا أنه ليس من المستبعد أن يتم تشكل خلية أزمة وتغير حكومي وتدخل البرلمان كوسيط لحل هذه الأزمة أو تدخل الحركات النقابية لامتصاص الاحتجاج في إطار منظم مما يجمد الزيادات التي أقرتها الحكومة وإلا ستبقي الاحتجاجات مستمرة والأكيد سيفتح الرئيس حوار بشكل مباشر أو غير مباشر لامتصاص هذه الحركة والغضب من طرف السترات الصفراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.