شعار قسم مدونات

استعادة الميادين.. الانتفاضات الملوّنة وضريبة العنف المعولم

blogs السترات الصفراء

يشهد عالمنا اليوم حالة استثنائية نتيجة الحركات الشعبية، المناهضة لرأسماله ثروات الأمم ومقدراتها، إنّ تنّوع مفهومنا للثورة كردّة فعل أو عملية إفراز للتشوّهات الاجتماعية النّاجمة عن ممارسات خاطئة، تولّد في المجتمع قابلية التجديد، سواء كان هذا التغيير مفتعلا تحت هيمنة استعمارية، أو حقيقة تاريخية ترفض كل اجترار للأكاذيب والأساطير المحلية، ونظرا لتجدد خريطة العالم الذي منح البشرية فضاء مشحونا بالخيال، وواقع يبحث له عن ملاذات مجانية، بغية الوصول إلى معنى معين يحتاجه من أجل عنونة أشيائه المتناقضة، تأتي حالة التزاحم الوجودي لتقرير كل ما له علاقة بالإنسان، وهل بمقدور شعوب الأرض أن تتبنى منهجا محددا يسمح لها بخلق مواطن، للسؤال، للتعارف، لتجاوز سلطة التاريخ، للتخلص من تعقيدات المعنى؟ إنّ ما يسمح لنا بالمرور نحو عالم مغاير عن طبيعتنا هو تلك التجاوزات الكونية التي تثبت مدى قدرة الجنس البشري، في تحجيم العالم كي يكون الإنسان هو العالم.

عبر أزمنة مختلفة أثبتت ممارسات الإنسان للسياسة، جوانبه البشرية الآخدة بازدراء المكونات الكونية، فكل ما له علاقة بالقوّة يطفو ليصبح تأمّلات تتفاعل معها الذات باختزالها كل المضامين العقلانية، ومن جانب آخر يرى هذا الكائن ذائقته النّفسية والروحانية موضوعا متأزما لأناس غير حقيقين ولا هم موجودين أصلا، ليعيرنا بذلك مضاربة بين الأشياء الكامنة وراء عالم المشاهدة، وما هو مقيم للعالم من سببية الوجود إلى أزلية التقدير، من أجل ذلك تداخلا كل من الجوهر والمادي بسوق ثمن أشيائه الخوف، كنموذج لعملة كونية يتداولها أرباب العالم البرجوازي، بمرابحة تتكون شروطها لمقتضيات الرغبة والمصلحة، الممزوجتان بحالات الاخفاق المتكررة لدى السلطة.

 

فالخوف هو من يمسك عصى التّكليف كي يمنحها اعتدالا وتوسّطا، وهو بذلك يستعيد للأشياء مكانتها الكونية من دون مراباة أو تطفيف، ونحن عندما ننظر إلى الثورة باعتبارها نوعا من الممارسة الثقافية لاستعادة الفضاء العام، فإننا نقف أمام مشكلة أخلاقية وقانونية، ليس بمقدورنا صرف النّظر عن جوانبها المرعبة، وهذا راجع لدفتر الحراك ومقوماته وأسباب نشوءه، من أجل ذلك وصف أية الله الخميني الإعدامات بعد الثورة، أنّها تهدف للقضاء على الكلاب المجرمة، بسبب تعلّقها وإخلاصها لنظام الشّاه المنهار.

وبالقرب من مقر رئاسة الجمهورية التونسية، احتشد الآلاف من الثوار يرفعون شعارات تنادي بسقوط نظام الوكالة المعولم، وتحقيق العدالة بين طبقات المجتمع كلها، نتج عن تلك الهزة الثورية، ردّة مؤسساتية

يعد قيام الجمهورية الإسلامية داخل عالم مليء بالصّراعات، حالة استمناء غير أخلاقية وتشوّه مؤسس لمعادلات الطلب العالمي على البترول، فبعد أزمة 1973 تشكل مفهوم آخر للتدين المالي، والذي فرض واقعا مغايرا عن الحالة الطبيعية، بحث الغرب داخل سجل تاريخي مترف بالنّزاعات، عن أماكن تبدو قيمها تتداعى عند اختلال الميزان الإنساني، ما يروّجه نموذج الجمهورية الإسلامية اليوم، هو حالة استعداء شامل لقوى الشرّ الإمبريالية، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية مع الكيان الصّهيوني بالمرتبة الأولى في سجل قوائم الحرس الثّوري.

 

شعار إيران المنادي بزوال إسرائيل، هو في حدّ ذاته اعتراف ضمني لعالم ترتفع أصواته بعد نكسة الديمقراطية بواقعنا العربي، فشل الغرب في دعمه الحركة الخضراء عام 2009، مستغلا اندفاع الشباب الإيراني الرافض لولاية أحمدي نجاد الثانية، وفيما بدا أزمة سياسية حينها، إنّما كان سخطا اجتماعيا على رحلة الخوف التي تزامنت بعد حكم ولاية الفقيه، وجّه الغرب انتقادات لاذعة لحكومة طهران، من أجل تقليم اندفاعها نحو امبريالية بسترة راديكالية تتعارض وتكوين نشاط المال المعولم.

بعيدا عن طهران وبالقرب من مقر رئاسة الجمهورية التونسية، احتشد الآلاف من الثوار يرفعون شعارات تنادي بسقوط نظام الوكالة المعولم، وتحقيق العدالة بين طبقات المجتمع كلها، نتج عن تلك الهزة الثورية، ردّة مؤسساتية واكبت سقوط نظام بن علي في غضون أيام معدودة، ليتوجه بطائرته نحو قصر الإليزيه، لقد ولد الربيع العربي من رحم المعاناة ومن نار الطغيان والظلم الاجتماعي الذي مارسته أنظمة تتصنّع التقليد الحضاري ضمن عالم بائس، استطاع التونسيون لوحدهم إزاحة خوفهم وافتقارهم القدرة على اسماع العالم المتحضر صوتهم، من دون استخدام للعنف أو السّلاح أو الهمجية البدائية، تفاجأت فرنسا بهذه النّقلة الوجدانية والتغيير المتسارع لمراكز القوّة، لتصف الحركات الملونة بالإسلامية.

 

وفي سردية تعود جذورها لعصور أوربا الظلامية، تصطف حكومة فرنسا ضد ما تدعوه بالإرهاب الإسلامي، في إشارة منها على استحواذ الحركات الإسلامية على مقدّرات الربيع العربي، لم يتوقف هذا العبث الكلونيالي بمنظومة صراع الحضارات وازدواجية الديمقراطية، منذ تأسيس الاستعمار لمدارس الاستيطان وتقنين حراس للمسودّات الصهيونية، داخل الفضاء المؤسساتي العالمي، وباعتبار الديمقراطية خيارا وحيدا لإثبات وجودنا الحضاري، كان علينا أن نقبل بالانخراط في العمل السّلمي ضد مناهضة الاحتكارات التوسّعية، والدّفاع عن الهويات المستلبة، والتي تصر على الظهور عند الممارسة العنيفة للتمثيل الحضاري بالعالم الحر.

تغيّرت إيران ولو بشكل طفيف بعد ربيع الحركة الخضراء، وتغيّر معها العالم العربي بعد ربيع تونس، لتسقط الأشياء بمواقعها الطبيعية، وتفكك الرموز التي أوهمتنا بالتمثيل السيادي للإنتاج الثقافي، في إشارة إلى مصر وسوريا، مع تفاضل التحوّل الديمقراطي وتناقضات الغرب نحوهما، تجسّد النّضج الثوري لدى الحركات الأناركية الجديدة برفض استعمال العنف كأداة لقلب نظام الحكم، وكوسيلة لاستعادة الميادين وتحرير الخطاب الفردي من صكوك الموالاة، لم تكن فوضى خلاقة كما أذاعتها كونداليزا رايس بجريدة الواشنطن بوست، إلا بعدما شهد العالم قصف الممتلكات والمباني بالطائرات الحربية السّورية، وقتل على ما يزيد 600 شخص، بفض اعتصام ميدان رابعة والعدوية في مصر، تحت مرأى ومسمع من العالم المتحضر.

 

كما أنّ أعداد القتلى جراء قصف التحالف العربي لمخلفات المبادرة العربية واتفاق الرياض، كان يدفع نحو تبرير أخلاقي باستخدام العنف، كمرحلة لتأزيم كفاح الضعفاء السّلمي، ونتيجة للتدخل السّافر والواضح من قوى الغرب، يظهر الاهتمام الفرنسي كحالة استثنائية بالربيع العربي، بعد رفض الإليزيه استقبال بن علي، مبدئيا ممارسته للنشاط الاستفزازي، وليفرض بموجبه طريقا آمنا لمصالحه التقليدية، احترام حقوق الأقليات كمذهب درامي يخرج فيه الممثل عن النّص، ليحدث جلبة غير اعتيادية بين فريق العمل أوّلا، فاستخدام حسّ التمايز يظهر استحسان التابع لكل مراوغة وإن على حساب وجوده، في حين يضحك جمهور ثان خلف سرديات المعرفة الخبيرة، الذين لا يملّون من تكرار مشاهدة السيناريو من زوايا مختلفة، وهم يظهرون مدى قدرتهم على استيعاب مثل هذا التحول العنيف.

تمثل الثورة من منظور اقتصادي فائض القيمة الإسمية للرأسمال التقليدي، فهي ترمي إلى تحقيق كلي للرفاهة الاجتماعية، مع ما يواجهها من اعتراض بديهي بواقعية مطالب الطاقات الإبداعية، حركة احتلوا وول ستريت أتت نتيجة مواسم التدفقات الاقتصادية الرهيبة والمتسببة بالعسرة المالية، كما أنّ المضاربة الثورية وسط عالم محتقن بالايدلوجيا جعل من قيمة الأشياء، تتهاوى بمجرد فرض مزيد من حالات الطوارئ، والتي تحول بين تنامي المنتجات الخارجية ورأس المال المحلي، يأتي الخوف كظهير لتجسيد عنف الطبقة المتحكمة بزمام المؤسسات المالية، ما يسمح لها بتحريف أيّ مسار ديمقراطي.

 

من اضطرابات 2005 إلى السترات الصفراء بفرنسا اليوم، تتلخص وضعية التّحرر الوطني من بنية النّظام العنصري الرأسمالي، الذي يتّخذ العنف كذريعة لقمع أيّ طموحات شعبية
من اضطرابات 2005 إلى السترات الصفراء بفرنسا اليوم، تتلخص وضعية التّحرر الوطني من بنية النّظام العنصري الرأسمالي، الذي يتّخذ العنف كذريعة لقمع أيّ طموحات شعبية
 

نشاهد على سبيل المثال مؤسسات العالم النيوليبرالي، كصندوف النّقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث لا قيمة نفعية للتداول الديمقراطي بها، مقارنة بالقرارت النوعية التي تتدخل في بسيادة الدول، هذا الاستلاب للعالم هو عنف مبدئي يتسبب بشعور وطني زائف عند أوّل هبّة شعبية للتغيير، وأخطر من ذلك ترييف النزعة العمّالية وابتذال مطالبها، كي تغدو عنفا مبيّتا وتقريرا لوكلاء ناهيبي الضرائب، هاهنا نرى جيدا الحركة الخضراء وثورات الربيع العربي وحركة احتلوا وول ستريت والسترات الصفراء، كنماذج لا يسيطر عليها الخوف المعلن من مؤشرات الدولار وأسواق النّفط المتهاوية ومعدلات التضخم وعدم الاستقرار المالى، وبالنظر إلى العمل الذي تقوم به اليوم السترات الصفراء داخل فرنسا، من رفض كامل لأيّ زيادة في رفع قيمة الضرائب، فإننا نعي جيدا مدى تطوّر العمل الثوري كونه قلب نظام الملكية إلى استعادة كاملة ومبدئية للتواجد داخل المؤسسات والمنتجعات المالية، في فضاء يتحكم به جيل جديد لم يتعود على الهزيمة.

من اضطرابات 2005 إلى السترات الصفراء بفرنسا اليوم، تتلخص وضعية التّحرر الوطني من بنية النّظام العنصري الرأسمالي، الذي يتّخذ العنف كذريعة لقمع أيّ طموحات شعبية، في الحصول على امتيازات اقتصادية تسمح له بمنافسة عادلة، واضراب كلي برفض خبز المسيح كقربان لتحقيق وجود سياسي ينقلب على جوهر الثورة، إنّ ما يدعونا للتفكير بعمل الحركات الشعبية المتحللة من كل الخطابات الحزبية، يعود بنا إلى أزمات الشّرق الأوسط وتدّخل إيران بزعامة الإصلاحيين والبالونات العقارية كلاعب سلبي لدعوات التغيير السّلمي، فالجميع يصرخ منددين بعنف الحركات الملونة، والعالم يدرك أنّ المشكلة مع هتلر وإن بدت مجنونة وعديمة الذّوق، فإنّه لم يكن على مستوى كاف من العنف مقارنة بما يحدث اليوم لأيّ حراك يريد اقتحام المستحيل والتفكير خارج امبراطوريات التصنيف الائتماني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.