شعار قسم مدونات

لعنة الرواية.. عندما يصبح الأدب "أفيون الشباب"

blogs الروايات

يقول ابن عربي: "كلّ وقتٍ لا يكونُ لكَ ولا عليكَ لا يُعوّلُ عليه" وهذا الوقت هو الذي تقضيهِ في قراءة الروايات. شوية كلام مرتّب بجانب بعضهِ.. عبارات وإيحاءات جنسية مخلّة بالآداب.. قصص رومانسية مستحيلة التّطبيق في الواقع.. سردٌ لِحواراتٍ تتفجرُ فيها الشّجاعة والفتوة.. كلامٌ في قيم الحق والخير والمساواة والعدالة، ولكنّه هباء منثور في الواقع الآسن.. الروائيون يجلبون المال إلى جيوبهم من خلال رصّ الحروفِ بجانب بعضها واستغلالٍ للمراهقين ضعفهم وفراغهم العاطفي والرّوحي.. شبابٌ طائشٌ تغذّي طَيشهم عنوانات مهيضةُ الجناحِ براقة وخادعة وحالمة وكاذبة.. تتفشى على صفحات وسائل التّواصل عبارات مقتبسة من الروايات تفيضُ لايكاتٍ لأنها تميسُ بالحكمة والموعظة الحسنة.. يقرأ الشّاب أو الفتاة بعض عنوانات  فيظنّ في نفسه أنه أصبح قارئاً نهماً ويبدأ بلعنِ النّاس الذين يجلسون في القاع ويُطالِبهم بأن يرتقوا.

 

الروايات فرخت لنا أشباه الروائيين، فتجد أن هنالك توقيعا للروائي فلان الذي ما جعله يتقدم إلى هذا المكان أو ذاك إلا دار نشر تنظر إلى جيبه لا إلى عقله، أو مجاملة من روائي قال له مُتحرجا منه إنك كاتبٌ عظيمٌ ولكَ قلمٌ روائيٌّ فاستمر؛ فما كان من هذه الفتاة أو الشّاب إلا أن صدّق نفسه ورأى في عِطفيه أنّه الرّوائيّ الذي سوف تتلقفُهُ جائزةُ البوكر لِتقول لَهُ إنما الجائزةُ وُجِدَتْ من أجلك وهي تبحثُ عنك من سنوات طِوال فتعالَ ولا تنظر للخلف…

 

كيف سوف تصنع الروايةُ وعياً حقيقاً وهي محضُ كلام شبيه بالأفيون الذي يخدر الشّاب عن أهدافه، وكل رواية تقول للشاب والفتاة "إن عليك ليلا طويلا فارقد"!

الرواياتُ تروج في أيدٍ تكون أوطانُها مستقرة آمنة، لا في أناملَ أوطانُها تحتاجُها لحملِ الفأس فتحتطب للمستقبل من أجل نشر الدفء في أوطانٍ مملوءة بالزمهرير.. الرواياتُ تنتشر بين عقولٍ كلما وافت الصّفا نقشن بها صدر البزاة حوافيا لا في مجتمعاتٍ تدّعي التّرف الفكري وهي تغرق على شاطىء الأمية الفكرية.. الرواياتُ تنتشر في الغرب لأنها تتربع على قمة جبل الحضارة، فقراءةُ الرّواياتِ هو مكان للتنفيس عن ضغوط التّرف الفكري والمادي، لا أن تنتشر في مُجتمعاتٍ يكادُ الجوعُ والفقرُ والذلُّ يجعلُ من الدّمع أنهاراً تَجري على عيونها كسواقي نهر شقّورة  في إسبانيا!!

 

الروايات يتكىء عليها من من سَئِمَ من كثرة ما قرأ من التّجليات الفكرية لفهمي جدعان، أو يحاولُ ان يروّح روحه التي غرقت في قراءة قصة الحضارة لـ"ديورانت"، أو يبحثُ له عن مُتنفّسٍ بعد أن مرّت عليه السّاعات الطّويلات وهو يُحاول الخروج من سجن "فوكو" الفكري، أو يعبر من سَنة الأحلام الخطيرة لـ"سولاف جيجيك"، لا أن نجد الروايات هي كل البضاعة للشباب، ويكأنّ التفاهةَ أصبحت تخصصا دقيقا لكثير من شبابنا وذاك لأنه لا يحملُ في طي عقله سوى بعض عنوانات لروايات تحلّق بعقله إلى أسفل سافلين…  

 

كيف سوف تصنع الروايةُ وعياً حقيقاً وهي محضُ كلام شبيه بالأفيون الذي يخدر الشّاب عن أهدافه، وكل رواية تقول للشاب والفتاة "إن عليك ليلا طويلا فارقد"؟ كيف سوف تقوم الحضارة على أكتاف عناوين براقة لا مضمون فيها بل إنها الأكثر مبيعاً فهي التي يصدق فيها قول القائل "نسمع جعجعة ولا نرى طحناً"؟ الرّوايات هي خطوات الشّيطان التي تجعل الجيل تهفو نفسُهُ إلى المجون والانحلال السّلوكي والتّمزق الأخلاقي والفسق العقلي والعهر في العلاقات الإنسانية…

 

فتجد هنالك فتاة تبحث عن شخصية روائية لكي تقترن به، وإن لم تجد تبدأ حفلة اللعن للرجال بأن أصدق ما في هُوية الأحوال المدنية أنها تسمي الرجال "ذكوراً".. وهنا تمنى شاب لو يجد مثل غادة السّمان التي كانت تُراسِل غسان كنفاني بمعسول العبارة، ولكنه لا يجد إلا ذوات الشّعر المنكوش والمتطلبات للخبز واللبن.. وطوال يومها فقط أن المواسرجي تأخر يا رجل.. كم من فتاة تمنت لو أنها تظفر بمثل جلال الدين الرومي؛ ذاك النّاسك، لأنها قرأت عنه في رواية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، أو أنها باتت ليالٍ طويلة تبكي مع "أليف شافاك" في "قواعد العشق الأربعون" وتقتبس منها وهي تتمنى ذاك المتصوف في تنورته وطربوشه وهو يدور دورة المولوي التي كادت عيونها تخرج من رأسها وهي تتأمل شاشة اليوتيوب.

 

نتحدث دائماً عن أهمية الوقت وقيمته، بل إن النبي عليه السلام أخبرنا أننا سوف نسأل عن شبابنا فيما أفنيناه؟ فهل ستكون الإجابة لقد أفنينا شبابنا بقراءة بعض الشطحات ببعض الروايات معسولة الحرف؟
نتحدث دائماً عن أهمية الوقت وقيمته، بل إن النبي عليه السلام أخبرنا أننا سوف نسأل عن شبابنا فيما أفنيناه؟ فهل ستكون الإجابة لقد أفنينا شبابنا بقراءة بعض الشطحات ببعض الروايات معسولة الحرف؟
 

كم من آباء انصدموا من حوارهم مع أبنائهم لأن الأبناء قد بدؤوا باستخدام رمزيات الرّواية وهم يتحدثوا مع آبائهم، والأب لا يفهم ماذا يقول هذا الابن أو ماذا يتمتم.. كم من شباب ضاعوا وهم يبحثون عن الكنز الذي قال لهم عنه باولو كويلو في "الخيميائي"، بل كم من فتاة تفتحت عيونها على أمور ليست من وقتها بعد أن قرأت لباولو كويلو "إحدى عشرة دقيقة"؟؟ وحتى لا يكون الكلام ملقياً على عواهنه فإننا لا نرى الانكباب على هذا الكلام المرصوف ببرودة بالغة إلا من قبل المراهقين لأنه يداعب فيهم شهواتهم ويجعلها تسير في غير الطريق التي رسمها الدين لهم.

 

بعد كل هذا، ألا تعتبر الرّواية رجساً من عمل الشيطان فيجب أن نجتنبه؟؟ ألا تعبر الرّواية حبائل الشّيطان التي تستدرج الشباب لكي ينسوا فلسطين المحتلة والعراق الجريح وسوريا المكلومة ومصر المتعبة؟؟ ألا يعتبر كل من يكتب رواية مساهماً في تأخير النّصر الموعود؟؟ ألا يعتبر كل من يخط رواية مساهماً في الإثم حتى لو كان فيما يكتبه خير لأن القاعدة تقول "ما أسكر كثيره فقليله حرام"؟ ألا يعتبر منع الرّوايات وتحريمها واجباً على أهل الشّريعة لأن هذا يدخل في باب "سد الذرائع"؟ فالفقهاء أقروا أن العنب يحرم بيعه لمن يعصره خمراً… والرّوايات تحرم لأنها تسعى في إسكار الشّباب وتضييع بوصلتهم التي هي نشر الدين.

 

هنالك نوع من الرّوايات التي تجعل لك خيالاً متطوّراً يسعفك على أن تبني الأحداث وتتوقعها كالرّوائع لدوستويفسكي

ألا يعتبر الرّوائيون أداة من أدوات الصّهوينية العالمية التي تسعى لتضييع الشّاب بأقلام محسوبة عليهم؟ ولكم بُحّت حناجر الغيورين على أبناء الأمة أن التّأويل لحديث النبي -عليه السّلام- عن تلك الفتنة التي لم تترك بيتاً آخر الزّمان إلا ودخلته ألا وهي الرّواية. ألم ينزعج النّبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عندما رأى ابن الخطاب يقرأ صفحة من التّوراة فقال له: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية…"، لأن القرآن ينسخ كل كتاب جاء بعده أو قبله، فالنبي -عليه السّلام- قد نبّه عمر -عليه الرّضوان- وهو يقرأ في التّوارة وهي نصّ سماوي، فكيف لو رأى النبي -عليه السلام- شاباً عشرينيا وهو يصرف السّاعات الطوال وهو يقرأ في رواية من تلك التي تتقاذفها الأيدي؟ ألا يدخل ترك القرآن والذهاب إلى الرّوايات في باب هجر القرآن؟ لو أن الشّباب انكبوا على كتاب الله كانكبابهم على الرّوايات لرأينا كيف يفرّ الصهيانة من أمامهم كالجرذان، ولكن للأسف استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير..

 

ألا نتحدث دائماً عن أهمية الوقت وقيمته، بل إن النبي عليه السلام أخبرنا أننا سوف نسأل عن شبابنا فيما أفنياه؟ فهل ستكون الإجابة لقد أفنينا شبابنا في قراءة بعض الشطحات في بعض الروايات معسولة الحرف؟ وبعد كل هذا، تجيء العناوين البراقة الخادعة:

الرواية وصناعة الوعي

الرواية وبناء الحضارة

الرواية وتأسيس للفكر الإنساني

الرواية والتغيير المجتمعي

الرواية وبناء عقل الشباب

الرواية وإثراء اللغة

 

كيف ستكون الرواية كذلك؟ ومتى تكون؟ وهل كل الروايات صالحة لذلك؟ وهل من الممكن أن تكون الرواية معول بناء؟ وما الطريقة التي من الممكن أن تجعل الرواية أداة كشف للنفس الإنسانية لا أداة تشويه؟

 

الإجابة تستفيق في النقاط الآتية:

كما أنّ هنالك زبداً من الرّوايات لا ينفع الناس فإن هنالك ما يمكث في الوعي منها، ونقف مع أمثولات وكيف نفيد منها وبها:

1- هنالك نوع من الرّوايات التي تجعل لك خيالاً متطوّراً يسعفك على أن تبني الأحداث وتتوقعها كالرّوائع لدوستويفسكي، فهو في "الإخوة كارامازوف" يجمع بين الإخوة في ملحمة اجتماعية يقف الرحمن إزاء الشّيطان بِنَفَسٍ روائيٍّ طويل، فهنالك "ديمتري" و"أليوشا" و"ألكسي" يتناوبون في سبر غور النّفس الإنسانية عندما يتجلى فيها الخير إلى أن تعلو على الملائكة، وإلى دركات الشّر حتى يجلس الشّيطان تلميذاً في حضرتهم.

 

2- وهنالك الرّوايات التي تعصفُ بالواقع المجتمعي وتذهبُ إلى مناطقَ معتمة لا يعلم بها إلا الله والرّوائي ذو القلم المتأنّي، فهذا عبده خال في "ترمي بشرر" ينتقل بنا بين رؤيتين تمزجان بين من هم في داخل القصر ومن هم في خارجه، فيقول الراوي: "أظن أن أهل حينا ما زالوا يوسوسون بأحلامنا القديمة ويقلّبون احتمالات السّؤال: ما السبيل إلى دخول القصر؟ بينما نحن (الذين في الدّاخل) نحصي الأيام للخروج منه".

 

 من الروايات ما يعتّق لك الحب شفيفاً رقيقاً كأجملِ ما يكون الهمسُ بين عاشقين في صباحات تشرين النّدية كرواية
 من الروايات ما يعتّق لك الحب شفيفاً رقيقاً كأجملِ ما يكون الهمسُ بين عاشقين في صباحات تشرين النّدية كرواية "ممو زين"
 

3- وبعضها ما يسير معك حيث أنتِجَتْ روحك لأول مرة، فمحمد أسد وهو في طريقه إلى مكة أنتج لنا نصّا روائيّاً يكاد حبره يضيء ولو لم تمسسه ريشة، فهو يمهد الطّريق في الرّواية وهو في الطريق إلى مكة، فيوضح العلاقة القائمة بين الملك عبد العزيز والبدو من حوله فيقول: "كان البدو عادة ما يذكرونه باسمه الأول، عبدالعزيز، بلا ألقاب رسمية، ولا صفات تشريف: فهم في تلقائيتهم وفطرتهم يرون الرّجل في الملك قبل أن يروا الملك في الرجل، كانوا يجلونه بلا جدال في إطار ما تفرضه البيئة الصّحراوية".

 

4- وبعضها ما ينتزع منك الدّمع حاراً سخيناً فيجري من قاع جوفك حتى يغلي به دماغك لأنك ترى الإنسانية تنحدر حتى تنزل في قاعات الحيوانية، فأنت في "القوقعة" مع مصطفى خليفة، ترى كيف يختار الأب أحد أبنائه لكي يتقدم للشنق أمام عينيه.

 

5- ومنها ما يعتّق لك الحب شفيفاً رقيقاً كأجملِ ما يكون الهمسُ بين عاشقين في صباحات تشرين النّدية كرواية "ممو زين".

 

6- أما ما يجعل العقل يرقد في باطن الكفّ حيرة فيجمع بين لغة ساحرة تسيغ لك السّم الزّعاف حتى تتجرعه، فأنت في حضرة إبراهيم عيسى في "رحلة الدم" حيث شنّع على الصّحابة -عليهم الرّضوان- وهتك حجب التّقدير والاحترام لقادة التّاريخ الإسلامي، ولكنه وضعه هذا كلّه بين حروف تميس جمالاً وتتأنق حلاوة، فأنت هنا تحتاج أن تُبقي ما لديه من فنّ روائيّ بديع وتنقّيه من كلّ تدجيل وزيف.

 

7- ومنها ما تهمس في أذن المسلم -في كل واحد منّا- بأن استفق يا ابن أخي فالصّخرة الجاثمة على صدرك إن فهمتَ معناها كانت صخرة بلال، وإن علت عقلك كانت صخرة سيزيف، فاختر لنفسك ما تشاء، وهنا يكون الحديث عن الحرف العمري أحمد خيري -أقصد في رائِعَتِهِ البديعة "شيفرة بلال"- حيث جعل الإيمان بـ"الله" فكرةً تسكن كلّ واحد منا، ونقل الإيمان بالله تعالى من كونه شريراً في المخيال التّربوي الإسلامي إلى كونه "العدل" والتّعبير بالمصدر لأنه ذاته مصدر العدل، فكان البلالان يعيدان ترتيب الإنسان من جديد، وينقلانه من كونه نكرة بالشّرك إلى معرفة بالتّوحيد الفاعل لا المفعول به.

 

تلك السّباعية هي التي تجعل الرّواية معول بناء.. تلك السّباعية هي التي تشير إليك من بعيد فتفهم أن الرّوايات ليست كلها إغراقٌ في التّفاصيل المبتذلة ولا كلّها حكي حارات، بل منها الكثير مما يحرّك راكد التّفكير، ويغذي معين الفكر، ويثبت أركان العقيدة بفتح التّساؤلات والإعانة على الإجابة عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.