شعار قسم مدونات

لماذا قررت التوقف عن الجدال حول القضايا الفقهية؟

blogs كتب إسلامية

قبل حوالي ثلاثة أعوام بدأت في دراسة مبسطة لأصول الفقه، ورغم أن هذا ليس مجال تخصصي لكني قررت استكشافه بسبب كثرة الشكوك التي بدأت تراودني في تلك الفترة. كانت لدي أسئلة عديدة تتعلق بعدم منطقية أو عبثية الأحكام والفتاوى في كثير من المناسبات، كأحكام تحريم الموسيقى مثلا، أو انحيازها الصارخ للرجل على حساب المرأة في مناسبات أخرى، بالإضافة إلى شبهة غياب العدل في بعض الأحكام.

 

أتذكر أني سمعت حديثا في صحيح مسلم عن العبد الآبق -وهو العبد الذي فر من سيده- يقول (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم)، فكان هذا الحديث كطعنة أصابت قلبي بحق، ولما نظرت للتفسيرات وجدت بعضها يقول إن الكفر هنا ليس خروجا عن الملة ولكنه عمل من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية، والبعض الآخر يقول إن الكفر هو كفر النعمة والإحسان، وبدا لي وقتها أن هذا الحديث بكل تفسيراته بغيضا وكريها، فالعبودية جريمة في كل مكان وزمان، وإن كنا ندعي أن الإسلام حاول تقنينها فنحن نقول إن الإسلام حاول تقنين (الجريمة)، وهروب العبد من سيده ليس جريمة بل نضال نحو الحرية، بل سيده هو المجرم لأنه يؤمن بحق الاستعباد، ولو كنت أنا عبدا في زمن العبيد لهربت!

 

ثلاثة احتمالات

وقتها وجدت نفسي أمام مفترق طرق، فإما أن يكون النبي قد قال هذا فعلا وقصده وعناه، ووقتها سيكون عندي مشكلة حقيقية مع هذا الدين، خصوصا مع علمي بأن المسلمين بعد وفاة النبي لم يحاربوا تجارة العبيد بل ازدهرت في عصرهم أيما ازدهار، وبخاصة مع الفتوحات المستمرة، وأصبحت بلاد الإسلام مع مرور الوقت سوقا ضخما للعبيد والجواري، وقد خصص الفقهاء لهم أحكاما فقهية تعاملهم على أنهم في مرتبة دونية أقل من البشر الطبيعيين (الأحرار)، فمن حق من يشتري جارية مثلا أن يفحص جسدها وهي عارية لا تستر من جسدها إلا ما بين السرة والركبة، ثم يقرر إن كان سيشتريها أم لا.

 

بعد دراسة أصول الفقة توقعت أن يمتلئ قلبي بالإيمان بعد طول الشك، لكني كلما ازددت تعمقا في القراءة والبحث وسؤال المتخصصين كلما زاد الشك أكثر وأكثر

وإما أن يكون النبي لم يقل هذا الكلام، فكيف لنبي الحرية أن يعتبر هروب العبد من سيده كفرا بالنعمة! ووقتها سأصل لنتيجة أن هناك مشكلة حقيقية في تدوين السنة، وأن ما يقولون عنه أنه حديث صحيح قد لا يعني أن النبي قاله أصلا، وبالتالي هناك مشكلة في طريقة استنباط الأحكام الفقهية بشكل عام لأنها تعتمد على كلام لم يقله النبي.

 

وإما أن يكون النبي قد قاله لكنه قصد موقفا معينا في لحظة ما، لكن الفقهاء قرروا أن يعتبروا كلام النبي في هذه المناسبة صالحا لكل زمان ومكان، فأخرجوا الأحكام والفتاوى المتعلقة بالعبيد بشكل ساهم في ازدهار تجارة العبيد في العصر الإسلامي وترسيخ فكرة العبودية والطبقية بين البشر. وبالتالي تصبح المشكلة في قواعد وأصول الفقه بشكل عام، لأنها تعاملت مع التجربة النبوية بشكل خاطئ تماما.

 

طريق البحث

كنت في حيرة شديدة وقررت أن أبدأ طريق بحثي الخاص عن الحقيقة. كنت أحاول معرفة ما هو الفقه، وما هي طريقة استنباط الأحكام بشكل عام؟ كيف يفتي الفقيه؟ ولماذا تختلف الفتاوى في نفس المسألة؟ وهل يتم الأمر بطريقة علمية فعلا؟ كان المدخل الأول بالتالي هو دراسة أصول الفقه، لأنه القسم المختص بدراسة طرق استباط الأحكام الفقهية من أدلتها، وحجية هذه الأدلة.

 

وتوقعت أن يمتليء قلبي بالإيمان بعد طول الشك، لكني كلما ازددت تعمقا في القراءة والبحث وسؤال المتخصصين كلما زاد الشك أكثر وأكثر. كنت مصدوما بشكل عام، وأقسى حقيقة قابلتها هي أن هذا (الفقه) هو بناء هائل لكنه مبني على الماء بلا أساس. كل هذه الكتب والشروح وشروح الشروح مبنية على أصول واهية ضعيفة هشة قابلة للانهيار مع أقل حركة للرياح.

 

الإجماع

على سبيل المثال: هناك قاعدة أصولية اسمها (الإجماع)، يعتبرها الكثير من الفقهاء دليلا كليا يمكن من خلاله استنباط حكم شرعي. وتعريف الإجماع بشكل مبسط هو أنه إذا اتفق الفقهاء في عصر من العصور على رأي في مسألة فقهية ظنية، فإن هذه المسألة تتحول إلى حكم شرعي قطعي ثابت يرتقي لمنزلة القرآن ولا يحق لأحد من الفقهاء تغييره مستقبلا!

 

مثلا، رجم الزاني والزانية غير موجود في القرآن، ولكنه موجود في السنة، فقد ثبت عن النبي أنه رجم، لكن لا أحد يعلم هل رجم النبي قبل نزول سورة النور أم بعدها. فإن كان النبي رجم قبل سورة النور فقد نزلت الآيات لتلغي حكم الرجم وتقر حكم الجلد، وإن رجم بعدها فالرجم عقوبة بالفعل. الرجم إذن حكم ظني لأننا لا نعرف هل نُسخ أم لا.

 

لكن كثيرا من الفقهاء يقولون إن الرجم لم يعد حكما ظنيا بل أصبح قطعيا، وذلك لأن الفقهاء في عصر من العصور بعد وفاة النبي قد أجمعوا عليه، وبالتالي ماداموا قد أجمعوا عليه فلا يحق لنا -نحن الذين نعيش بعدهم بأكثر من ألف عام- أن نخالف هذا الحكم. في وصاية غريبة تجبرنا على عدم التفكير والانصياع لعقول ماتت منذ مئات السنين.

 

قرر أحد الشيوخ أن الفقهاء إذا استنبطوا حكما لا يحق لهم مراجعة أنفسهم وتعديل رأيهم مستقبلا. ليس المهم في نظر الشيخ أن يراجع الفقيه نفسه، لكن المهم بالنسبة إليه أن ينعقد الإجماع 
قرر أحد الشيوخ أن الفقهاء إذا استنبطوا حكما لا يحق لهم مراجعة أنفسهم وتعديل رأيهم مستقبلا. ليس المهم في نظر الشيخ أن يراجع الفقيه نفسه، لكن المهم بالنسبة إليه أن ينعقد الإجماع 
 

الطريف أن فكرة الإجماع أصلا مستحيلة عقلا  وغير قابلة للتطبيق بأي حال من الأحوال، ففي الماضي كان جمع آراء الفقهاء في مسألة ما يستغرق سنين طويلة من السفر، وقد يغير الفقيه رأيه قبل موته فيخرج عن الإجماع فلا يصير هناك إجماع من الأساس، وكان هذا سبب ظهور قاعدة تسمى (انقراض العصر)، أي أنه يجب أن نتأكد أن جميع الفقهاء الذين يقوم بهم الإجماع قد ماتوا دون تغيير آرائهم، لكن هذا يوقعنا في مشكلة جديدة، وهي أننا لكي ننتظر وفاة جميع هؤلاء الفقهاء فسيظهر فقهاء جدد، وهؤلاء الفقهاء الجدد قد يخالفون الإجماع، فماذا نفعل حينها؟

 

لذلك ذهب بعض الفقهاء لرفض قاعدة انقراض العصر، لدرجة أن هناك تعليقا مضحكا وبائسا للأسف ينقله الشيخ بن عثيمين عن بعض الفقهاء عندما سألوه عن قاعدة انقضاء العصر فقال (ينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد، لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم، فما الذي يرفعه؟).

 

هكذا قرر الشيخ بكل بساطة وأريحية أن الفقهاء إذا استنبطوا حكما لا يحق لهم مراجعة أنفسهم وتعديل رأيهم مستقبلا. ليس المهم في نظر الشيخ أن يراجع الفقيه نفسه، لكن المهم بالنسبة إليه أن ينعقد الإجماع مهما كان مخالفا لكل علم ومنطق.

 

ليس هذا فحسب، فالأدهى من ذلك أننا لم نتمكن من الوصول إلى جميع آراء الفقهاء، فهناك فقهاء ضاع علمهم ولم يصل لنا، فمثلا في عصر أبو حنيفة ومالك عاش فقيه مصر الليث بن سعد، الذي قال عنه الشافعي إنه أفقه من مالك. لكن كل علم الليث بن سعد ضاع ولم يصل إلينا، وبالتالي ربما يكون قد خالف الإجماع في زمنه، وبالتالي مستحيل أن ينعقد الإجماع لأننا لا نعرف هل أجمع الجميع أم لا؟

 

كالعادة حاول بعض الفقهاء التهرب من الأمر، فأطلقوا قاعدة اسمها (الإجماع السكوتي) مفادها أن الفقيه إن لم يخالف رأيا في مسألة ما علنا فإنه يُعتبر موافقا عليها. هكذا ببساطة تم تجاهل كل الفقهاء الذين لم يتحدثوا في المسألة أو لم يصلنا رأيهم من أجل شرعنة الإجماع.

 

الطريف، أن قاعدة الإجماع نفسها غريبة، فلو دققت في الأمر لسألت نفسك (ما هو الدليل على أن الفقهاء لو أجمعوا على رأي ظني ما في عصر من العصور فإنه يصبح قطعيا ويرتقي لمنزلة القرآن؟ هل ذُكر هذا في القرآن مثلا أو في حديث شريف؟).

 

حاول بعض الفقهاء الوصول لحل وسط فقالوا إن الإجماع هو ما أجمع عليه الصحابة فقط، وهذا كذلك أمر غريب، فنحن لم يصلنا جميع آراء الصحابة بل عدد محدود جدا منها

وقد سأل أحد الرجال يوما الإمام الشافعي عن حجية الإجماع، فقال إن الآية التالية تشير إليه (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، فقام بتأويل الآية تأويلا غريبا مفاده أن هناك سبيل للمؤمنين، وهذا السبيل يحدده الفقهاء لأنهم أعلم الناس، وبالتالي من يخالف الفقهاء يحيد عن السبيل ويشاقق الرسول.

 

وهذا والحق يقال أغرب تأويل لآية سمعته في حياتي، وقد انتقد الإمام أبو حامد الغزالي هذا التأويل فقال (هذه كلها ظواهر نصوص لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر، والذي نراه أن الآية ليست نصا في الوجوب، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه، نوله ما تولى…).

 

وحاول البعض شرعنة الإجماع بالحديث الشريف (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، ولكنها محاولة واهية كذلك لأنه من قال لك إن المقصود بالأمة في الحديث هم الفقهاء في عصر من العصور، فالحديث لا ينص على هذا، وقد يكون المقصد منه الأمة كلها في كل زمان ومكان.

 

وحاول بعض الفقهاء الوصول لحل وسط فقالوا إن الإجماع هو ما أجمع عليه الصحابة فقط، وهذا كذلك أمر غريب، فنحن لم يصلنا جميع آراء الصحابة بل عدد محدود جدا منها، ولا نعرف هل غيروا رأيهم قبل وفاتهم أم لا، وبالتالي لكي تطبق إجماع الصحابة فعليك أن تتجاهل قاعدة انقراض العصر، وتتأكد أن أحد الصحابة لم يخالف رأيه قبل وفاته، ثم تطبق قاعدة الإجماع السكوتي، وبالتالي أن تخالف أبسط قواعد المنطق والعقل والعلم الحقيقي.

 

وقد امتلأت كتب الأسانيد بمحاولات هائلة لجمع آراء الفقهاء المختلفة في الأزمنة المختلفة من أجل تحري وقوع الإجماع، وكُتبت تفاصيل كثيرة حفظها طلبة الفقه طول سنوات الدراسة، لكن المشكلة أن القاعدة نفسها غير صحيحة عقلا وعلما، القاعدة هزيلة بالأساس، وبالتالي هذا ما قصدته بالبناء الضخم المبني على الماء دون قاعدة.

 

أحاديث الآحاد

نفس الأمر تكرر معي أثناء دراستي لحجية السنة النبوية، وتحديدا في مسألة (أحاديث الآحاد)، فأغلب الأحاديث الصحيحة هي أحاديث ظنية الثبوت، لأنها نُقلت من خلال راو واحد فقط في طبقة من طبقاتها، وهذا الراوي معرض للسهو والنسيان والكذب والتدليس، بينما القرآن نُقل بالتواتر، أي بأكثر من راو في كل طبقة من الطبقات، فالقرآن قطعي الثبوت بينما غالبية الأحاديث ظنية الثبوت، أي أن هناك شكا في نسبتها للنبي، وبالتالي يمكننا أن نعتمد على هذه أحاديث الآحاد فقط في جمع الأخبار التاريخية، مثلا مع الاعتبار الدائم بأنها مجرد أخبار ظنية كعادة كتابة التاريخ بشكل عام، لكن لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نعتبرها دينا ونصدر على أساسها أحكاما فقهية بالحلال والحرام.

 

كيف نقتل المرتد مثلا بحديث آحاد هو (من بدل دينه فاقتلوه) ونحن لا ندري هل قال هذا النبي أم لم يقله؟ هل يُقتل الناس في الإسلام بالظن؟ ناهيك أن غالبية الأحاديث غير معروف هل قالها النبي كحكم عام أم قصد بها موقفا بعينه؟ فالأحاديث غالبا ما نُقلت بالمعنى وليس باللفظ حرفا حرفا كالقرآن، ولم يُنقل معها الموقف الذي قيلت فيه، وهل كانت تشريعا أم مجرد جملة خبرية. يعني على سبيل المثال حديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) هل قيل كحكم تشريعي، أم كان نبوءة من النبي لزوال ملك فارس بعد أن مات كسرى وتولت ابنته الحكم من بعده. فالأحاديث أغلبها مقتطعة من سياقها، وهي مجرد جمل قصيرة وليست نصا طويلا مرتبا ومترابطا كالقرآن.

 

رأيت من جديد البناء الضخم المبني على الماء، فآلاف الكتب تتحدث عن الأسانيد وتتحرى الرواة الثقات وتدقق في كل التفاصيل، ويبذل الفقهاء أعمارهم في حفظها، لكن القاعدة نفسها التي تلزمنا بالعمل بهذه الأحاديث قاعدة واهية

هذا غير أن غالبية الأحاديث كانت تنقل بالمعنى حسب ما فهمه الراوي، وليس كلمة كلمة ونصا نصا حسب ما قاله النبي. وهذا سبب العديد من المشاكل، فنحن نعلم أن حرفا واحدا في اللغة العربية قد يغير معنى الجملة كلها من النقيض للنقيض، وهناك حالات شهيرة لاختلاط المعنى على صحابة كعمر بن الخطاب وابنه عندما رويا حديثا عن النبي يفيد بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فلما سمعته السيدة عائشة نفت أن يكون النبي قد قصد هذا، وقالت (إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ. حسبكم القرآن يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى. إنما قال رسول الله: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه). وبالتالي فما ذكرته السيدة عائشة عن احتمالية اختلاط السمع يجعلنا لا نثق في أي حديث وصلنا بخبر واحد، ويجعل من المستبعد عقلا اعتباره دينا نحل ونحرم ونستحل دم الناس به.

 

مسألة حجية حديث الآحاد كثيرا ما تواجه جدالا عصيبا بين المؤيدين لها والمعارضين، لكني سأتوقف عند دليل واحد من أدلة المؤيدين للعمل بحديث الآحاد، وهو يعتبر أقوى أدلتهم، وهو تحديدا ما أثار انتباهي كثيرا وجعلني أشك في أصول الفقه بشكل عام.

 

يقول المؤيدون للعمل بحديث الآحاد إن النبي وافق على العمل بخبر الواحد لأنه كان يرسل رجلا واحدا ليعلم أهل اليمن دينهم مثلا. ومادامت هناك احتمالات أن ينسى هذا الرجل أو يكذب فهذا يعني أن النبي لا يمانع أن ينقل الدين بشخص واحد مهما كانت احتمالات السهو والكذب. ثم يستدلون بحادثة تحويل القبلة، حين جاء رجل من المدينة إلى مسجد قباء وهتف بالمصلين أثناء صلاتهم إن القبلة قد تم تحويلها باتجاه الكعبة، فغيروا اتجاههم فورا بمجرد سماعهم لكلام شخص واحد ولم ينتظروا أن يتأكدوا من آخرين ليتحقق لهم التواتر، وهذا بالتالي دليل في نظرهم على العمل بخبر الواحد ومن ثم أحاديث الآحاد.

 

صدقا عندما قرأت هذا الدليل شككت فيما أقرأ وظننت أن في الأمر خطأ أو ما شابه، فهذا الدليل ليس مجرد دليل غير علمي، بل هو دليل يمكن وصفه -دون إهانة- بأنه دليل أحمق.

 

مشكلة هذا الدليل أنه يقتطع الحدث من سياقه كاملا ويتجاهل عوامل رئيسية محيطة به، فعندما ذهب الصحابي إلى المسجد وطلب من المصلين تحويل القبلة، فإن المصلين كانوا يعيشون في زمن النبي بالفعل، ويمكنهم ببساطة التأكد من النبي بعد الصلاة. بالإضافة لهذا فالحديث الذي وصف الواقعة لم يخبرنا ماذا حدث بعد الصلاة، فبالتأكيد عندما تم تغيير القبلة حدث ارتباك، وبالتأكيد هم ليسوا خبراء بالجغرافيا ليعرفوا اتجاه القبلة الجديد بسهولة، وبالتأكيد هناك من تردد ولم يفهم ما الذي يجري، وبالتأكيد بعد انتهاء الصلاة ارتفعت أصوات متعجبة مما حدث مثلما يحدث في أي تجمع بشري، وربما شكك أحدهم بالأمر وقرر التأكد من النبي بنفسه، وعندما سار إلى النبي قابل مئات الصحابة الذين كانوا يتحدثون في الأمر.

 

ناهيك أن الأمر تم بآية قرآنية، وقد كانت آذان العرب تستطيع تمييز القرآن بمجرد سماعه، وقد كان القرآن ينزل على النبي بأحكام جديدة من وقت لآخر، هذا غير أن النبي نفسه كان يريد تحويل القبلة، ويقلب وجهه في السماء، وربما توقع البعض استجابه الله له. كل هذه العوامل الكثيرة والمهمة في تفسير تلقي المسلمين وقتها للخبر تم ببساطة تجاهلها، والإمساك فقط في قصة أن الصحابة غيروا قبلتهم عندما بلغهم الخبر من شخص واحد، واعتبار هذا دليلا للعمل بخبر الواحد، هل هذا يُعقل؟

 

وبعدها يُطلب منك أن تثق ثقة عمياء في راوي حديث عاش بعد أكثر من مائة عام من وفاة النبي، في زمن كثر فيه الكذب والتدليس والتقول على رسول الله، ويقال لك بكل بساطة: صدق كل ما يقول لأن هذا هو نفس ما حدث في مسجد قباء. أي منطق هذا؟!

 

هكذا رأيت من جديد البناء الضخم المبني على الماء، فآلاف الكتب تتحدث عن الأسانيد وتتحرى الرواة الثقات وتدقق في كل التفاصيل، ويبذل الفقهاء أعمارهم في حفظها، لكن القاعدة نفسها التي تلزمنا بالعمل بهذه الأحاديث قاعدة واهية.

 

معارك قديمة ومكررة

أرهقني الأمر في البداية وأصبحت بسببه متوتراً قلقاً، وكلما درست أكثر كلما زادت الشكوك وقل اليقين، وأصبحت أكتب عنه كثيرا على وسائل التواصل الاجتماعي وأخوض نقاشات مرهقة وصعبة أملا في إيجاد إجابة حقيقية بدلا من الإجابات السخيفة وغير المقنعة التي أسمعها باستمرار، وأصبحت أتعصب وأهاجم وأضيع الكثير من وقتي، ويرتفع ضغطي ويضطرب قلبي حرفيا.

 

ثم في لحظة ما أدركت أن النقاشات التي أخوضها ما هي إلا نقاشات مكررة بالنص في معارك قديمة منذ اختراع الفقه نفسه، منذ أن بدأ الفقه وحتى الآن والناس تتجادل وتتصارع في كل زمن والكل يسرد أدلته وحججه. نفس الحجج والدلائل والبراهين تُطرح في معارك جدلية لم ينتصر فيها طرف انتصارا حقيقيا. نفس النقاشات بحذافيرها تتكرر، نفس الأسئلة الصعبة ونفس الإجابات الواهية. وبدا أن هذا هو حال الفقه الإسلامي عبر العصور.

 

كتابه عن تاريخ مكة (مكة المدينة المقدسة)  (مواقع التواصل)
كتابه عن تاريخ مكة (مكة المدينة المقدسة)  (مواقع التواصل)

يسرد ضياء الدين سردار في كتابه عن تاريخ مكة (مكة المدينة المقدسة) جانبا من هذا الصراع فيقول "كان كل مذهب وفريق يتخذ لنفسه موقعا في الحرم، ويصلي فيه أتباعه وراء إمامهم أو شيخ مذهبهم أو طريقتهم، ثم يتحلقون حوله وقد تميزوا بردائهم أو لون ملبسهم، ينصتون إلى الخطب والمحاضرات التي تمدح الفضائل التي تميز جماعتهم، وبحلول نهاية القرن التاسع الميلادي باتت تلك الفروق في الحرم تنبني على المذاهب الأربعة… وكان من المألوف أن تتعدى الفرق على حدود تلك المساحات، وأن تتحدى بعضها بعضا أو تتعارك فينشب النزاع بينها، فكون ساحة الكعبة والمسجد حرما لم يمنع من التنازع بين من يؤمنون بالحرام والحلال، وهي حقيقة مؤلمة لا تسري على أتباع الإسلام وحدهم. وكان الخلاف أحياناً يصل إلى حد الاشتباك بالأيدي وتبادل اللكمات، بل كان الأمر يصل إلى غلق بوابات المسجد لمنع توافد المزيد من أنصار الفرقاء للمشاركة في نصرة فريقهم".

 

ليس علماً

هذا الصراع المستمر بنفس الأدلة والحجج والبراهين لم يلفت انتباهي فقط إلى عدم جدوى الحوار وعدم جدوى إعادة اختراع العجلة، لكنه أكد لي حقيقة كانت واضحة بالنسبة لي من فترة، وهي أن الفقه لا يمكن أن يكون علما حقيقيا. العلم الحقيقي ينبني على حقائق ثابتة لا تحتمل التأويل، فعند خلط الصوديوم بالكلور سينتج كلوريد الصوديوم. هذه حقيقة لا تقبل الجدال والصراع حولها، لكن الفقه هو أقرب إلى تذوق الناس المختلف لنص أدبي. فالشافعي مثلا قرأ آية (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى…) فاعتبرها دليلا على الإجماع وأسس عليها قاعدة كبرى يطلق منها الأحكام، بينما قرأها أبو حامد الغزالي فاعتبر تأويل الشافعي خاطئا، وأصبح لكلا الرأيين أنصاره، ودارت بينهما صراعات طويلة، لكن المؤسف أننا لا يمكن أن نثبت في المعمل أيهما على صواب، وبالتالي هذا ليس بعلم ولكنه مجرد وجهات نظر.

 

أصلا فكرة اعتبار الرواة ثقات نؤمن بكل ما يقولونه هي فكرة ساذجة بشكل عام، فالراوي الثقة قد يكذب أو ينسى. العلم الحقيقي لا يؤمن بالنوايا بل بالقواعد. طريقة جمع القرآن بالتواتر هي طريقة علمية حقيقية لأنها لا تدع مجالا للنوايا الطيبة، بل هناك أكثر من راو لكل آية بشكل يجعل نسبة الخطأ تقريبا مستحيلة، لكن طريقة جمع الأحاديث المعتمدة على الثقة في نوايا الناس ليست علما وتفتح أبوابا للشك. وللأسف نقد المتن هو ركن مهمل تماما ولم يتم العمل عليه بشكل جاد ومستمر يراعي تطور الزمن والعلوم.

 

والعلم يتطور مع تطور الزمن، مع كل احترامنا لجهد أبوقراط في الطب، فلا يمكن لأي عاقل أن يتداوى بوصفاته حاليا ويترك الطب الحديث، لكن الفقه لا يتطور تقريبا، بل ويرى كثير من الفقهاء أن علماء الماضي أكثر علما ودراية بأحوالنا، ويمكنهم أن يعالجوا بأحكامهم مشاكلنا، ويرون أن كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، ويرون أنه لو أجمع الفقهاء قبل ألف عام على رأي في مسألة فإن هذا الرأي صار ملزما لنا نحن الذين صرنا نفهم الحياة أكثر منهم مليون مرة، بعد كل هذا التطور في العلوم.  

 

السبب الأهم الذي دعاني للتوقف عن كل هذه الجدالات هو ما يحدث حاليا في السعودية، عندما ثبت أن الفقه وأدلته يمكن أن يتغيرا بسهولة لمجرد أن الحاكم أراد هذا

بالتالي، وفي لحظة من اللحظات أدركت أن الجدال حول هذه الأمور لا معنى له. لا معنى للجدال حول نص غير واضح والصراع حول تفسيره. فمهما جادلت وتناقشت فالنصوص الدينية نفسها تحتمل كل هذه التفسيرات. النصوص الدينية تحتمل آراء كل المذاهب وكل الجماعات، أهل السنة والأشاعرة والمعتزلة والشيعة والوهابية وغيرهم.  

 

القرار

ما قررت أن أفعله الآن هو الالتزام في الحلال والحرام والعبادات والأحكام فقط بالنصوص الواضحة قطعية الثبوت والدلالة فقط، أو ما وصلنا بالتواتر العملي كطريقة الصلاة. ما عدا هذا فأنا فقدت الثقة كليا في الفقه وكل ما يسمى بالعلوم الشرعية، وأستعين بالفقهاء فقط في توضيح بعض قواعد النصوص القطعية، كأحكام الزكاة مثلا. ما عدا هذا من الفقه وكل هذه المذاهب والتأويلات والتفسيرات فقد زهدت فيها حرفيا. ولم أعد مهتما بما يقال أو سيقال.

 

لم أعد مهتما برأي الفقه في الخروج على الحاكم، وعندما خرجنا على الحاكم في يناير لم ننتظر فتوى، ولم أعد مهتما برأي الفقه في تكفير هذا أو ذاك، ولا في أي مسألة لم يأت بها نص واضح قطعي الثبوت والدلالة. قررت أخيرا أن أتجاوز كل هذا التراث من القواعد الواهية والتفاصيل الكثيرة والتأويلات الغريبة، وأن أتوقف عن النقاش فيه والجدال حوله. الدين واضح وصريح، لكن هناك من بذل عمره من أجل تعقيده أيما تعقيد.

 

الفقه والحاكم

أما السبب الأهم الذي دعاني للتوقف عن كل هذه الجدالات فهو ما يحدث حاليا في السعودية، عندما ثبت أن الفقه وأدلته يمكن أن يتغيرا بسهولة لمجرد أن الحاكم أراد هذا. إن تغيير حكم الاختلاط أو الموسيقى أو غيرها ليس مجرد شيء عادي، فأنت لكي تبيح الاختلاط بعد منعه مثلا فعليك أن ترفض عددا من أحاديث الآحاد، ولكي ترفض هذه الأحاديث فعليك إما أن ترفض العمل بأحاديث الآحاد جملة وتفصيلا، أو أن تغير في قواعد نقد المتن، ومن ثم ترفض قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب. إن تغيير حكم واحد يلزمه الكثير من التغيير في قواعد الأصول، وكل هذا تم لمجرد رغبة الحاكم في التغيير. فما الذي كان يحدث عبر قرون من توريث الحكم والبطش بالمعارضين؟

 

إذا كان الفقه يُطبق بقوة السلاح، فلماذا نضيع الوقت في جدالات لا معنى لها؟ كان الفقه متشددا في السعودية حسب رغبة الحكام وسيكون متساهلا أيضا حسب رغبة الحكام. جدالاتنا لا تصنع ولن تصنع أي فارق يذكر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.