شعار قسم مدونات

في الحب والشوق

مدونات - عائلة
أحببت الحديث في مثل هذه الأجواء الشتوية الباردة عن دفء الحُب، عن تلك الهالة المُحيطة بقلوب من عرفوا قيمة العطاء الحقيقي، ممَّن أيقنوا أنَّ الحياة مُبادرة وليست مُتاجرة. لكنّنا نتألَّم ونُكثر من التباكي، حينها نرى ما يبدو لنا قسوة وتجاهلا عندما نهتم ولا يُهتَّم بنا، لكن الحقيقة عكس ذلك، فنحن لم نُبصر بعد الحُب، بل أخذنا حروفا عارية من القيمة، خالية من المعنى الأسمى للعطاء، وهو عدم انتظار المقابل، فما كان الحب يوما غصبا، ولن يكون يوما سفينة مثقوبة تُغرقنا في مُحيط بارد يسكنه الجليد فيغمُرنا موتا.
      
من أيام أخبرتني صديقتي أنَّها تُحب فصل الصيف، أنّها تُفضِّل درجة الحرارة المُرتفعة على برودة الشتاء، أمَّا أنا فتمسّكت بالرأي الآخر، وأنَّ أجواء الشتاء وتساقط الأمطار والثلوج أشدُّ جمالا، أعيش فيها حنينا لأشياء أجهلها لكنّها تسكُنني، أرى في بِرك الماء وقطراتِ المطر المُلتصقة بزجاج النافذة رومانسية طاغية تجرُّني إلى عزف حروف الحُب دون وعي منّي، لكن.. رُغم الجمال الذي نراه في فصولنا المُفضَّلة، نلجأ إلى الشكوى من حُرقة الشمس، والبرد القارص، لمَ نحن محدودو الحُب هكذا، لمَ لمْ نُدرك بعد أنَّ قمَّة إدمان الشيء تؤدي إلى الانصهار فيه، فلا نُبصر ما يدفعنا للشكوى؟!
       

ما دفعني اليوم لاختيار ثنائية الحُب والشوْق، هو فهمنا السطحيّ لهما، لماذا يا ترى يخجل أفراد الأسرة الواحدة من إفشاء حُبّهم أو شوْقهم لبعضهم البعض؟! خاصة في ظل ما نشهده اليوْم من غيابٍ تام للّمة العائلية الدافئة بالجلوس حول مائدة واحدة، وتقاسم أجواء الفرح والحزن معا، نحن في بيْتٍ واحد لكنّنا لا نجتمع إلاَّ في الأعياد أو الجنائز، أخذنا الفيسبوك، تويتر، انستغرام ووووو غيرهم الكثير، اختلطت المشاعر فأخذنا على عاتِقنا التجوُّل بيْن الصفحات حتى نُعبِّر عن مدى حُبِّنا وشوقِنا، نحن نُعاني من قحطٍ في المشاعِر حاد جدا، أدمنَّا الافتراض، تجاهلنا الواقِع، اتجهنا إلى المكان الخطأ لعلَّنا نسد نقصا ما، لكن الحُب لا يُعاش إلاَّ على أرض الواقِع، والأشواق تتلاشى حين عناقٍ بيْن الأعين.

هكذا هو الحُب أينما حلَّ صنع بهجة، هو كالغيْث يسقي تُربة قُلوبنا فنحصد مزيدا من الحُب، يكبر ويكبر ويكبر فيحتوي آلامنا وأشواقنا

ها أنا أكتُب بعشوائية حتى أسمح لحروفي بالخُروج عفويا، لعلَّها تصل إلى قلب وعقل القارئ، لعلَّنا نلتفِت إلى واقِعنا قليلا، ونحمل ألوان الاهتمام والعطاء، حتى نُعيد صبغ جُدران قُلوبنا بمزيدٍ من الحُب، نسأل عن غائِب، نزور مريضا، نشتري باقات ورد لأمهاتِنا، نطبع قُبلة على خد الأب المُجهد من قلّة الاهتمام، نشتري كِتابا لصديقنا المُدمن على القراءة، نُشاغب مع أخواتِنا، نزرع شجرة بدل قطعِها، نتمشَّى تحت المطر دون مطرية وبعيدا عن الخوْف من الإصابة بالزُّكام، نبتسم للجميع حتى لو وصفونا بالمجانين..

     
لماذا لا نرجع إلى الحياة؟ ما الذي أخذنا عنها يا تُرى؟ الحياة مليئة بمن نُحب، لكنَّنا لا ننتبه لوجودهم حتى يُفارقوا أيَّامنا، تعبنا كثيرا دون أن نعيش مُرَّ وحلاوة الحياة، دون أن نُجرِّب شيئا، تجاوزنا الدُروس وأغمضنا أعيننا عن حقيقة أنَّ الواقع لن يتغيَّر ما دُمنا ثابتين في أماكِننا نشتكي البرد ونحن حُفاة عراة من الحُب، نشتكي الوحدة ونحن لاجئون بأوطاننا لأنَّنا اخترنا البقاء على هامِش من الشوْق، اخترنا الصمت حينما استلزم الأمر البوْح، وزَّعنا الكلمات حينما استدعى الأمر عِناقا صامتا بيْن القُلوب.
    
مرَّت على ذاكرتي اليوْم صورة قديمة لعائلتي، حينما كُنَّا نجتمع حوْل مائدة بسيطة في بيتنا القديم الدافئ جدا حول طبق لذيذ حرَّكته أمي فوق الموْقد بكلّ حُب، توابله اهتمامها وابتسامات أبي، الأمر قد يبدو تافِها لوهلة، لكنَّه أعمق بكثير من السطحية التي نعيشها اليوْم، للأسف فقدنا طعم كلِّ شيء، فقدنا أنفسنا ومن حوْلنا، تجرّدنا من ذواتِنا، لبسنا ثوْب التجاهل وخلعنا ثوْب الاهتمام، تحجّجنا بتفاهة الأمر، لكن الحقيقة دائما مُرتمية في أحضان البساطة والعفويَّة.
    
الحُب والشوْق إن لم نُعبّر عنهما الآن، سيفقدان حلاوتهما، تلك اللهفة إلى الشيء تتلاشى تدريجيا، نحتاج اليوْم أن نكون على قيْدِ الحُب، نحتاج إلى حياة صادقة ومشاعر نبيلة، صنعنا حواجز وقيودا بدل أن نزرع العطاء فينمو ربيعا مُزهِرا عِطره نحن، هكذا هو الحُب أينما حلَّ صنع بهجة، هو كالغيْث يسقي تُربة قُلوبنا فنحصد مزيدا من الحُب، يكبر ويكبر ويكبر فيحتوي آلامنا وأشواقنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.