شعار قسم مدونات

من يأبه لموت عشبة برية؟

blogs - man

حدثني صديقي المقرب عن نفسه قائلا: عندما جاءتني الفرصة الأولى للخروج من بلدي -المعاق بفعل نظام الحكم البائس- والعيش في بلد أوروبي سعيد، قلت لصديقي الذي عرض علي الأمر حينها، لتفادي هجمة شرسة شنها عليّ بعض المتطرفين آنذاك، بسبب أفكار نقدية للتراث والعقل الإسلاميين: لا أرغب في خسارة قضيتي بقبول هذه الفرصة. فأصدقائي المتطرفون يشيعون أنني عميل لمنظمات أجنبية، وذهابي إلى بلد أوروبي في هذا التوقيت سيعد تأكيدا لهذه التهمة! وأنا حريص على سلامة القضية أكثر من حرصي على سلامتي!.

     

بعدها بسنوات عرفت أني ضيعت على نفسي وأهلي فرصة حقيقية للنجاة من وطن يتهددنا بالقتل والجوع والمرض والذل يوميا، وأنه كان بالإمكان خدمة القضية والوطن الأم بصورة أفضل لو أنني قبلت العرض، وتفرغت لتطوير مهاراتي الأساسية في الاشتغال بالمعرفة والبحث العلمي. لكن أمرا ما كان يهون عليّ مرارة الندم وصعوبة العيش في وطني العضال، هو تلك الفسحة الفسيحة من الوقت المتاح للقراءة والمطالعة والتأمل، في سياقات المعرفة التي رسمتها لنفسي. إضافة إلى لقاءات أخوية بنخبة من الأصدقاء المثقفين الممتلئين جمالا وذوقا.

    

كنت عالقا بين خيارات كلها مُرة، فإما البقاء في المعتقل الكبير الذي كان يدعى الوطن، وإما مغادرة المعتقل إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن للحر أن ينتصر للحرية والوطن ولو بالكلام.. وكان الخيار الأخير هو الأقل كلفة بالطبع

لم أكن لأقبل التفكير في مغادرة اليمن للعمل في أي بلد آخر مهما كان مستوى المعيشة فيه. ولم تكن تغريني فكرة المدينة الحديثة الساطعة بالأنوار في أوروبا. لأني من تلك الفئة التي ترى بعيني جان جاك روسو المدنية الحديثة. أكره غابات الأسمنت، والحياة الصاخبة المكتضة بكل شيء عدا الإنسان. وقد دفعني هذا الحرص الشديد على وفرة الوقت المتاح للقراءة والتأمل إلى القبول باليسير من الدخل المادي الذي يغطي مطالبي الضرورية. وما زلت أتذكر أني تقدمت يوما لمدير مؤسسة كبيرة كنت أعمل فيها، بطلب تخفيض راتبي إلى النصف، في مقابل أن يقلص من ساعات عملي فيها، وهو ما تم بالفعل. قبل أن أتفرغ تماما للقراءة والبحث، والاكتفاء بالعائد الزهيد الذي يأتيني من الكتابة الصحفية وبعض النشاطات الثقافية.

    

لم تكن حسبة ساذجة بالطبع، بل حسبة برجماتية خالصة، فأنا أدرك جيدا طبيعة الضريبة التي سأدفعها من كينونتي في حياة المدينة الحديثة والعمل الزائد عن الحاجة. وكنت أعد نفسي بمثابة مغامر أوروبي، من أتباع مدرسة فرنكفورت، قرر العيش في بلد بدائي ناء طمعا في فسحة الوقت وبكارة الحياة. بعد أن عرف حياة الصخب والنصب.

    

إلا أن الأقدار أبت عليّ حتى هذا القدر المتواضع من الأماني. وذهبت بي بعيدا إلى غابات الإسمنت التي طالما تحاشيتها، على إثر كارثة الانقلاب الغاشم الذي نفذته قوى الظلام والتخلف على دولة الشرعية والجمهورية في بلدي. ووجدت نفسي عندها عالقا بين خيارات كلها مرة. فإما البقاء في المعتقل الكبير الذي كان يدعى الوطن، الوطن الذي غادره معظم الأصدقاء، وانقطعت فيه سبل العيش الكريم، كما انقطعت فيه الألسنة والآمال. وإما مغادرة المعتقل إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن للحر أن ينتصر للحرية والوطن ولو بالكلام. وكان الخيار الأخير هو الأقل كلفة بالطبع. حتى لو كانت هذه الكلفة هي الانقطاع لسنوات عن عادة القراءة والتأمل والبحث. وهي العادة التي لم تنقطع على مدى 32 عاما من العمر مضت.

    

إن هذا النوع من الخسارة لا يلفت انتباه أحد في العادة. فماذا يكون انقطاع قارئ عن عادة القراءة، وتوقف باحث عن متابعة مساقاته البحثية، بجوار خسارة الروح -أو المال- التي مني بها البعض جراء ما أحدثته الثورة المضادة للربيع العربي من جرائم وظروف مأساوية في بلدان الربيع العربي؟! إن هذا النوع من الخسارة يشبه  انقراض عشبة برية تحمل علاجا سحريا لمرض خطير لكن لم يكتشفها أحد.. من ذا الذي يأبه لموت عشبة برية مجهولة!. ومن ذا الذي يرصد خسارتنا القومية والحضارية بفعل هذا النوع من الموت والانقراض؟!.

    

إننا أمة تنزف، من أمد طويل، حتى كأنها لا تجيد غير النزيف. تنزف روحا وعقلا ووجدانا، كما تنزف دما. إلا أنها لم تمت بعد، ولا أظنها تموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.