شعار قسم مدونات

أقزام يعاندون التاريخ من الشام إلى العراق فاليمن

مدونات - اليمن

أستذكر هذه الأيام حدثين هامين بارزين في تاريخ النهوض العربي والإسلامي، ذكرى الانسحاب السوفياتي من أفغانستان والذي اكتمل في الخامس عشر من شباط/ فبراير من عام 1989، والذي كان قد بدأ في آب/أغسطس من عام 1988 ليتزامن بدؤه مع مقتل مهندس الهزيمة السوفياتية الجنرال ضياء الحق في ظروف غامضة مع كبار ضباطه والسفير الأمريكي والملحق العسكري الأميركي أيضا،  بالإضافة إلى هذه الذكرى هناك ذكرى عزيزة على قلبي هي ذكرى انطلاقة الثورة اليمنية العظيمة، يوم كنت شاهدا على كونها فسيلة، لتكبر وتكبر وتصبح غابة يستظل بظلها الأحرار والشرفاء، بينما يسعى الطغاة والأقزام إلى حرقها فيحرقون أنفسهم معها، ولكن تأبى الغابة إلا أن تنمو من جديد لتهتف كما هتف من قبل شاعر اليمن العظيم عبد الله البردوني:

    

يا ويح شرذمة المظالم عندما

تطوى ستائرها ويفضحها الغد

وغدا سيدري المجد أنّا أمة

يمنية شما وشعب أمجد

وستعرف الدنيا وتعرف أنه

شعب على سحق الطغاة معوّد

      

كانت أياما جميلة عشناها، ومشيناها خطى، وما أجملها من خطى على طريق المجد والتحرر والخلاص من الاستبداد الذي ران على قلوبنا وعقولنا من الشام والعراق إلى اليمن ومصر وليبيا وغيرها.. كنت قد وصلت إلى اليمن أواخر شهر فبراير/شباط من عام 2011، وكانت نويات المظاهرات السلمية الرائعة قد انطلقت أمام جامعة صنعاء العريقة، كان وِردي الصباحي الصحافي أن أتسمّر أمام باب جامعة صنعاء الشمالي لأشاهد وأرقب شبابا وشابات يرسمن مستقبلا لغيرهم، فالكل هنا يرى أن الاستبداد متجذر وبالتالي عازم على اقتلاع كل من يقف بوجهه، كبرت كرة الثلج اليمنية سريعا وجرفت معها كل مظاهر الاستبداد والإجرام والعادات السيئة التي نمّطها الاستبداد وأعوانه بالخارج، على أن اليمن مدجج بالسلاح وبالتالي لا يليق به ربيع ولا يستحق ثورة سلمية، ولكن كذّب اليمن كل هذه النمطيات وأثبت على أن شعبه على سحق الطغاة والكذبة معوّد..

    

في الشام لم يتجرأ الأمريكيون على قتل روسي واحد، إلا بعد أن مرّغ ثوار الشام أنف روسيا بالتراب، وتحديدا في سراقب العز، لتسقط طائرتان روسيتان حتى الآن في نفس المدينة ويتم أسر جثث طياريها

كان الجسم يومها في اليمن الجميل بينما الروح ترفرف فوق الشام منتظرة أن يتفتح الياسمين الشامي الذي سعى القتلة إلى وأده لعقود، أمضيت شهرين جميلين من تغطياتي الصحافية مع عائلتي الصحافية اليمنية الصغيرة الرائعة بدءاً من مدير المكتب سعيد ثابت إلى المراسلين الجميلين أحمد الشلفي وحمدي البكاري وما بينهما، مصورين وفنيين كالشهيد مجيب عبد القوي صويلح الشوافي وسمير النمري الذي غدا لاحقا مراسلنا في اليمن، والذي رافقني قبلها كمصور في حلب الإباء، أعادها الله تعالى لأهلها الأصليين.. لكن لم يدر الطغاة والغلاة أن الشعوب قد انتفضت وأن الكتلة التاريخية الحرجة من تاريخ وجغرافية الأمة الممتدة من العراق فالشام إلى اليمن، لا يمكن معاندتها ولا معارضتها، ومن يفعل ذلك فهو كما قال فيه الشاعر العربي من قبل:

    

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فما أضرها وأوهن قرنه الوعل

   

قد تتراجع ثورات الربيع العربي وتختفي أحيانا كما يراها الأعشى، ولكنها ستظل جمرا تحت الرماد وتلك هي دروس التاريخ، يوم أن انتفضت في وجه الصليبيين فعادت قوية صلبة جذعة تجرف كل من يقف بوجهها وبطريقها الحضاري، تستمد وقود نهضتها من تلك الدماء الذكية المسكوبة على ربى الشام وضفاف دجلة والفرات منذ أيام الصحابة ومرورا بالزنكيين والصلاحيين وغيرهم إلى اليوم..

    

أستذكر أيضا في هذه الأيام الانسحاب السوفياتي من أفغانستان، حيت اكتمل في الخامس عشر من فبراير، يومها نظر قائد القوات الروسية في أفغانستان الجنرال بوريس غروموف من  جسر الصداقة المقام على نهر آمو داريا إلى أفغانستان حسيرا كسيرا منهزما يودعها ويودع معها آلاف القتلى والجرحى من قواته، تماما كما ودع جده قيصر الروم من قبل سوريا بعد هزيمته باليرموك بقوله: "وداعا سوريا، وداعا لا لقاء بعده.."

   

في أفغانستان لم يجرؤ الأميركي على قتل سوفياتي واحد، فترك الأمر للمجاهدين الأفغان، ولا زلت أتذكر ما قاله لي القائد عبد الحق في جبهة كابول حين كان يمنُّ عليه المسؤول الأميركي بتقديمهم المساعدات والأسلحة على المجاهدين، فردّ عليه عبد الحق بقوله: "أعطيك مليون دولار وتفضل اقتل روسيا واحدا"، أما في الشام فلم يتجرأ الأميركيون على قتل روسي واحد أيضا إلا بعد أن مرّغ ثوار الشام أنف روسيا بالتراب، وتحديدا في سراقب العز، لتسقط طائرتان روسيتان حتى الآن في نفس المدينة ويتم أسر جثث طياريها، بعدها فقط تناقلت وسائل الإعلام عن استهداف أميركي لقوات روسية في دير الزور لكن كليهما لا يؤكدان رسميا هذه الواقعة بعد..

     

لكنها رغم بخل الغيث ما برحت

حُبلى وفي بطنها قحطان أو كرب

وفي أسى مقلتيها يغتلي يمن

   

سيرحلون عن العراق والشام واليمن، سيرحل الطغاة وأذنابهم، وسيزهر الياسمين والجوري وتزهر كل ورود الشام والعراق واليمن، ولكنكم قوم تستعجلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.