شعار قسم مدونات

عن التلوث اللفظي.. ملامح حقبة "قشطة وطحن"

مدونات - مصر
في أحد شوارع وسط مدينة القاهرة في بداية الستينيات، يقترب الشاب الذي يرتدي البذلة الكاملة، مما يعني أنه موظف حكومي محترم، من سيدة لا يعرفها ويقول لها "نهارك سعيد يا هانم". يتوقف الكاتب والروائي المصري ثروت أباظة أمام المشهد مستنكرا ما أسماه الانهيار الأخلاقي الذي يعاني منه المجتمع المصري. هذا الانهيار الذي تبدت ملامحه، من وجهة نظره وقتها، في معاكسة الشاب للسيدة في شوارع القاهرة وجرأته على أن يقول لها وبلا خجل "نهارك سعيد يا هانم". رحم الله الكاتب الكبير ثروت أباظة (1927 – 2002) الذي توفي ولم يختبر ما وصلت إليه لغتنا وتعبيراتنا وألفاظنا، ليس فقط في المعاكسات ولكن في الخطاب اليومي والإعلامي والسينمائي والتلفزيوني وحتى الرسمي.
 
إن لغتنا العربية لغة راقية، وهي التي جعلت الكثيرين يتساءلون كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد. وهي اللغة التي وصفت بأنها لغة الضاد الكاملة المحببة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، وتكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة. دعنا نتأمل الشاعر حافظ إبراهيم وهو يمجد تفرد اللغة العربية قائلا: أنا البحر في أحشائه الدر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.
  
لم نعد نحتاج برنامج الشاعر والإذاعي الراحل فاروق شوشة (1936- 2016) "لغتنا الجميلة" الذي بدأه عام 1967 بعد هزيمة يونيو مباشرة. كان برنامجا يُعيد الصلة بالقيم المعرفية والتراث العربي والكنوز الشعرية والأدبية. وكان الشاعر شوشة يعمل فيه على تحليل النصوص الشعرية والأدبية للمستمع العادي رجل الشارع لكي يكسبه قدرات تذوق جمال اللغة العربية، لغة الوطن والمكان والإنسان والقرآن.
  

تصاعد مفهوم التلوث وتطور ليضم التلوث البصري الذي استباح عيون أفراد المجتمع. لا توجد مرجعية لونية أو تشكيلية لصاحب محل بقالة أو خردوات أو ملابس أو حتى كشك لبيع السجائر يعود إليها

حاول أن تستمع إلى إحدى حلقات برنامج "لغتنا الجميلة" ثم جرب أن تشاهد على موقع يوتيوب أحاديث مسجلة لممثلات مصريات مثل فاتن حمامة أو ماجدة أو لبنى عبد العزيز أو حتى راقصات مثل سامية جمال أو تحية كاريوكا. شاهد وقارن أفكارهم ولغتهم وألفاظهم ليس مع أحاديث ممثلات وممثلين وراقصات زمننا الحالي، ولكن حتى مع ما يقدم حاليا في الخطاب التلفزيوني الإعلامي المعاصر ومسلسلاته وبرامجه وحواراته.
  
المشاهدة والمقارنة ستجعلك تدرك مستوى الانزلاق الذي وصلنا إليه ونحن نتنازل تدريجيا عن فهم اللغة كسياق للوجود وأداة مبدعة للتعبير عن تحضرنا وتطورنا ومواقفنا الأخلاقية والإنسانية. الإشكالية هنا أن هذه القضية تمثل امتدادا لمفهوم التلوث الذي أصبح مفهوما حاكما في السياق العربي عامة والواقع المصري خاصة. لقد امتد مفهوم التلوث في بلادنا وتجاوز التلوث المادي بالنفايات والقمامة حتى في باريس الشرق بيروت. كما تجاوز التلوث البيئي بعد تفوقنا في ضخ السموم في أجوائنا وأنهارنا وبحيراتنا وحقولنا وبساتيننا. ثم تفوقنا في التلوث السمعي، وأصبحنا نملك الريادة فيه بمستويات ضوضاء غير مقبولة أثرت بالقطع على معدلات إدراك الناس وتفهمهم لقيم الصمت والتأمل والسكينة.

  
تجول فقط في أحد شوارع مصر التي يستخدم فيها مزيج صوتي من النفير والزعيق وما يسمى غناء ومنبهات السيارات وصوت محركاتها الآيلة للسقوط، فتجد نفسك أمام معدلات غير مسبوقة من الإجهاد والتلوث السمعي، كما تصاعد مفهوم التلوث وتطور ليضم التلوث البصري الذي استباح عيون أفراد المجتمع، إذ لا توجد مرجعية لونية أو تشكيلية لصاحب محل بقالة أو خردوات أو ملابس أو حتى كشك لبيع السجائر يعود إليها، وهو يفعل كل ما يريد في لافتة محله المنقضة على الشارع والرصيف والعيون. أو تأمل صاحب عمارة يصبغها بما يراه هو جميلا ضاربا بعرض الحائط أذواق عشرات الألوف الذين تقتحم فجاجة ألوانه عيونهم كل يوم وتلوثها. أو تأمل محصلة مجموعة من المباني في شارع ما وهي تتصارع وتتناقض بصريا بصورة مؤلمة وتدفعك للتساؤل عن جدوى أن نكون أحفاد الفراعنة علماء العمارة والعمران ومعلمي العالم أصول التشكيل البصري والنسب التوافقية والتناسق والهارمونية البصرية بكل أبعادها.

 
قاموس الألفاظ السيئة والتراكيب اللغوية الفجة والمفردات الشعبوية الرديئة امتد ليصبح هو السياق اللغوي الحاكم لهذه البرامج التلفزيونية
قاموس الألفاظ السيئة والتراكيب اللغوية الفجة والمفردات الشعبوية الرديئة امتد ليصبح هو السياق اللغوي الحاكم لهذه البرامج التلفزيونية
 

ثم أتممنا مشهد التلوث الأكبر بإضافة مكون جديد هو التلوث اللفظي الذي وافقنا فيه، موافقة جمعية مجتمعية، على إسقاط اللغة من منظومة تحضرنا وتميزنا بل وهويتنا وقيمتنا. لا أرفض هنا فكرة أن كل دولة بل وكل حضارة، ومنها أميركا أو ألمانيا أو إنجلترا، لا يوجد بها لغة دارجة وألفاظ شعبوية. الفارق هو إدراك المجتمع أن هذه هي فعلا لغة استثنائية لارسمية شعبوية، ولا يمكن أبدا أن تتحرك ألفاظها وتراكيبها وتتسلل الى الخطاب الرسمي العام أو الخطاب الإعلامي أو الثقافي. فلكل سياق لغة ولكل دولة أيضا لغة استهلاكية شعبوية، ولكن الخطورة وكل الخطورة أن تتحول هذه اللغة ومفرداتها الرديئة وتلميحاتها البذيئة إلى لغة الدولة الرسمية في إعلامها وجامعاتها ومدارسها وأفلامها ومسلسلاتها وحتى في خطابات قادتها.
  
في واقعة قريبة، كنت قد انتهيت من إلقاء محاضرة عامة عن عمارة وعمران المتاحف في الشرق الأوسط وكان حضورها مزيجا من الأكاديميين والمعماريين والمثقفين والمهتمين بالمتاحف ودورها في الحياة الثقافية. بعد انتهائي من المحاضرة اقترب مني البعض للثناء والتهنئة ثم حياني اثنان من الإخوة المصريين. اندفع أولهم بحماس قائلا "بصراحة يا دكتور المحاضرة فشخ طحن". وسعادتك "طرقعت" للراجل اللي سألك السؤال "طرقعة مية مية". احمر وجهي وأصابتني حشرجة في حلقي بينما تصبب العرق بغزارة على وجهي، وأنا غير مدرك لما يحدث. انتبه الأخ المصري الثاني وتقدم مني مسرعا وهو يقول: "ما تزعلش يا دكتور، صديقي بيمدح فيك لكن يبدو حضرتك "ما روحتش مصر من فترة".
  

انطلق إلى آفاق الخطاب الرسمي المرصود من قبل مسؤولين ووزراء بل وقضاة ومفكرين وأكاديميين، ويدهشك السقوط اللغوي ليس في النحو والصرف ولكن في اختيار الألفاظ وتبني المشوه الرديء

لم يكن أسلوب الأخ المصري العزيز حالة استثنائية فقد رصدت سيطرة ظاهرة التلوث اللفظي وهي تتصاعد من تمثيليات وبرامج تلفزيونية حتى ما عرض فيها في شهر رمضان، بل إن بعض حلقات الدراما المصرية الرمضانية تضمنت بل وتكرر بها ألفاظ من نوعية: "إيه يا بت، مين الموزة دي؟، لأ يا روح امك". بل إنني استمعت إلى تعبير على لسان إحدى النجمات الشهيرات جدا وهي تقول في إحدى الحلقات: "لما تندهلي هأجيلك قبل ما تَفتك (التفة هي البصاق) تنزل الأرض". هذا هو التلفزيون وفي شهر رمضان.

  
دعنا نترك المسلسلات والتمثيليات وننتقل إلى البرامج الحوارية بنجومها الذين يُعرفون حاليا بلقب إعلاميين. ما بعد ثورة 25 يناير، أعطي الضوء الأخضر لهؤلاء الإعلاميين لاستخدام لغة ساقطة وألفاظ سوقية لمهاجمة المرشح المدني الفائز الوحيد في تاريخ مصر. بعض البرامج تم تغليفها بغلاف كوميدي وبعضها أخذ المنحى الجاد. المذهل أنه بعد عزل هذا الرئيس المنتخب وتولي رئاسة مصر مرة أخرى أحد المنتسبين إلى المؤسسة العسكرية، لم تتمكن هذه البرامج حتى مع وقف بعضها وتهميش حفنة من نجومها، من التوقف عن بث التلوث اللفظي في السياق المجتمعي المصري. بل إن هناك مباراة تنافسية استجدت بينهم وهي القدرة على الصراخ والزعيق والتهديد وبمعدلات "ديسبيبيلية" خارقة (الديسيبل هو وحدة قياس شدة الصوت).
  
كما أن قاموس الألفاظ السيئة والتراكيب اللغوية الفجة والمفردات الشعبوية الرديئة امتد ليصبح هو السياق اللغوي الحاكم لهذه البرامج. الأكثر خطورة أن ضيوف البرامج وعلى الرغم من قدراتهم التعليمية والثقافية أحيانا فإنهم يتماهون وأحيانا يسعدون ويبتهجون ويثنون على خفة دم الإعلامي وأسلوبه. أترك هذا المستوى وانطلق إلى آفاق الخطاب الرسمي المرصود من قبل مسؤولين ووزراء بل وقضاة ومفكرين وأكاديميين، ويدهشك السقوط اللغوي ليس في النحو والصرف ولكن في اختيار الألفاظ وتبني المشوه الرديء. ثم انتقل إلى مستوى الخطاب الرئاسي الذي تتألق فيه مفردات مثل "لا مؤاخذة وهأوو".
  
كل منظومة التلوث بأبعادها السمعية والبصرية والمادية والبيئية يجب أن تتوقف لخطورتها الشديدة، ولكن مقاومة التلوث اللفظي وإيقافه أمر حتمي ومصيري وواجب وطني لأنه تهديد صريح لكل القيم والمبادئ وهدم فعال لمعنى الهوية والانتماء، لأن سقوط اللغة بكل بساطة ومباشرة هو سقوط حر، وقد يكون أبديا للأمة كلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.