شعار قسم مدونات

محمود شاكر.. الانتحار بداية النجاح!

مدونات - محمود شاكر
في يوم الـ 13 من شهر مارس 1926 كان الشاب محمود شاكر جالسا ينصت لما يقول أستاذه الدكتور طه حسين في كلية الآداب قسم اللُّغة العربية عن الشعر الجاهلي، والذي أخذ أستاذه يُشكك في صحته وصحة حقبة كاملة، وهو الذي قرأ في الشعر الجاهلي وغاص فيه من قبل، فلم تكُن هذه المرة الأولى التي يسمع عنه، وإنما الوهلة الأولى التي يسمع فيها وجهة نظر أخرى لدكتوره الذي يقول إنّ الشعر الجاهلي منحول، أي كُتب بعد ظهور الإسلام، فحاول أن يعترض موضحا لأستاذه وأصدقائه أنه علينا أن نقرأ الشعر جيدا قبل أن نُشكك فيه دون أدلة قوية وحجج رادعة، إلا أن أستاذه كان مؤمنا بتجريد الأطروحة الأدبية من ثوابت العقل، فلم يأخذ بقوله.
 
إلا أن محمود شاكر لم يتوقف وقرر الدفاع عن وجهة نظره، صادفت محمود في هذا الوقت مقالة لمارجوليوس، وهو مستشرق انجليزي يهودي، نشرت في مجلة الجمعية الملكية الأسيوية بعنوان "الشعر الجاهلي"، محاولا فيها إثبات أنه منحول، أي كتبه رواة الإسلام ليثبتوا أن لهم تاريخا، ولكنه كان يفتقر إلى قوة الدليل وحسن الطوية، الأكثر فداحة أن الفكرة انتقلت إلى طه حسين بكل ما فيها، حتى أنه امتثلها ودافع عنها وحاول تأصيلها في عقول طلابه، وكأنه هو صاحبها.

أقدم محمود شاكر على الانتحار في العشرينات من عمره؛ إذ قصة حبه التي لم تكتمل، والنوائب الشديدة التي نالت منه ومن عزيمته، منها خلافه مع الدكتور طه حسين وتركه للجامعة

فتأكد الشاب محمود من أنه أمام سرقة أدبية كاملة، ومن السارق؟ إنه أستاذه الذي يُجله ويمجده، فأقر في دخيلة نفسه أن كتاب "في الشعر الجاهلي" كارثة أدبية، ومن هنا بدأت المجادلات بينه وبين الدكتور طه الذي كثيرا ما استدعاه إلى مكتبه، لكن كلما واجهه محمود بحقيقة الفكرة وانتسابها لمارجوليوس تهرب الدكتور طه منه، وهنا قرر محمود شاكر أن الجامعة قد سقطت من نظره، ليس فقط من أجل فكرة أستاذه المسروقة، وإنما اعتراضا على مناهج رأى أنها فاسدة وحان الوقت لتغييرها، حتى أن الدكتور طه حسين عرض عليه أن تمر السنة الثالثة دون امتحانات لكنه رفض، إلا أن يعترف الدكتور طه بأن كتابه حاشية مطولة على مقالة مارجوليوس، فأبى الدكتور، ورحل محمود شاكر عن الجامعة بعد السنة الثانية، فدعونا نقترب من هذا الشاب الشجاع ونعرف عنه أكثر!

المولد والنشأة

في الليلة الأولى من عاشوراء سنة 1327 هـ، الموافق الأول من فبراير عام و1909م، ولد محمود شاكر في مدينة الأسكندرية في أسرة الشيخ محمد الشاكر وكيل الأزهر الشريف، وهي أسرة تهتم بالعلم والعلماء ولها به صلة قوية، انتقل الشيخ محمد شاكر ليسكن وأسرته في حي الأزهر بالقاهرة، فدخل محمود شاكر المدرسة، والتي كانت تعلم بالانجليزية وقتها؛ فالاحتلال البريطاني لمصر مسيطر على الوضع العام، فأتقن الانجليزية، حتى كانت ثورة 1919م والتي أثرت كثيرا في الفتى محمود، الذي تتلمذ على يد والده وأخيه الأكبر الشيخ أحمد شاكر، الذي يكبره بنحو عشرين عاما، فقرأ عليه القرآن وتعلم منه علوم الحديث، وجلس أمام الشيخ المرصفي، ثم التقى بالرّافعي وأحبه؛ إذ إنه يدافع عن نفس القضايا التي يدافع عنها هو.

صدفة
تخرج محمود شاكر من الثانوية القسم العلمي رياضيات، وطبقا لقانون إنشاء الجامعة المصرية آنذاك كان من المستحيل أن ينتسب محمود شاكر إلى كلية الآداب، ولكنه أصر على دخولها، وكانت عادة طه حسين أن يزور بيت الشيخ محمد شاكر، فالتقى محمود وآنس فيه ملامح النبوغ، والنجابة، فاحتضنه وتوسط له مع لطفي السيد فأدخله طه حسين كلية الآداب نزولا عند رغبته الخاصة، ولم يعلم الدكتور طه حسين أنه بذلك يفتح الباب للصقر الذي يتعصب للحقيقة، وأنه سيكون أولى محطاته التي ينزل إليها معارضا مدافعا، وبالفعل حدث ما حدث ووقعت المعركة وخرج محمود شاكر من الجامعة وسافر إلى جدة مدة عام، وأسس مدرسة ابتدائية؛ ليمارس فيها التعليم كما ينبغي، لكنه لم يلبث أن أجبرته ظروف مرض أخته على العودة إلى مصر.
  
undefined
 

انتحارٌ وعُزلة

أقدم محمود شاكر على الانتحار في العشرينيات من عمره؛ إذ قصة حبه التي لم تكتمل، والنوائب الشديدة التي نالت منه ومن عزيمته، كخلافه مع الدكتور طه حسين وتركه للجامعة، وشعوره بأن الحياة الثقافية في هذا الوقت كانت حياة فاسدة تماما، غير أن الدافع الأكبر هي حاسته الرومانسية القوية التي دفعته لهذا الموقف العنيف الذي أقدم عليه، وفي عام 1930 بدأ نشر شعره في مجلة الرسالة، وكان سياقها رومانسيا غاضبا وليس حالما والسبب قصة حبه الموؤودة.

بعدها قضى محمود شاكر عشر سنوات من العُزلة، ولكنه لم ينقطع عن معرفة مجريات الواقع الثقافي؛ إذ آثر أن يُعيد قراءة الشعر الجاهلي ويفتح لنفسه طريقا غير التي نشأ عليها في المدارس المصرية، ومن المعلوم أن علاقة الأستاذ محمود شاكر بالمتنبي علاقة وثيقة؛ إذ حفظ ديوانه منذ نعومة أظافره، ولكن بوجهة نظر جديدة من الناحية الأدبية والتاريخية لشعر المتنبي وعلى أسس أكبر، ففاجأ المجتمع بعدة اكتشافات في كتابه عن المتنبي، منها أن والد المتنبي لم يكن سقاء في الكوفة كما أشيع؛ إذ درس علم الأنساب، كما أن الضغوط التي واجهها محمود شاكر تضعه في نفس موقف المتنبي عندما واجه ضغوطا شبيهة، فهو الذي لا يؤمن مجتمعه بمنهجه ولا وجهته، هكذا كان محمود شاكر في هذا الوقت، موهبة بدأت مكتملة، وشعاع نور واضح يعرف أين طريقه، فمن عزلة كانت للعقل غذاء، وللروح دواء، إلى الخروج للمجتمع وتضارب الآراء، حيث سنرى شخصا آخر، قوي الحُجة، واسع المعرفة، متعصبا للحقيقة، لا يهاب بشرا، صاحب قلم بتّار، يقتلع الباطل من جذوره، ويؤصل للحق في كل مكان.

محمود شاكر وعبد الناصر
كان منزله قِبلة للعلم والعلماء، والساسة، وطلاب العلم والكُتّاب من كل مكان، وكان الشيخ واسع الكرم، باسم الثغر، يسمع الجميع، ولكنه كان حادا في قول الحق، متعصبا لإنصاف الحقيقة لا يخشى بشرا، ولا يعين ظالما ديكتاتورا، فدخل السجن، نتيجة سبه نظام عبد الناصر في 5 من فبراير عام  1959،
عندما تحدث في الهاتف ولم يعلم أن مكالماته تسجل -ياللخسة! نحن في مصر غارقون في مِصيدة العسكر منذ زمن بعيد إذا، حري بنا أن نقرأ الأدب العربي ونُطالع مادته التاريخية الصادقة التي لا يمكن تزييفها إن كُنّا لا نؤمن بمحطات التاريخ التي تقول عن الديكتاتور ديكتاتورا، والفاسد فاسدا. كان يحيى حقي والشيخ الباقوري حاضرين مع محمود شاكر هذا اليوم، فاستدعى عبد الناصر الشيخ الباقوري، وقال له: "أكنت حاضرا هذا اليوم وسمعته يسبني؟" فأجاب: "نعم، ولكني كنت أصلي في غرفة أخرى". فعاقبه عبد الناصر أن حكم عليه بعدم الخروج من بيته لأي سبب حتى صلاة الجمعة.
 
 محمود شاكر (مواقع التواصل)
 محمود شاكر (مواقع التواصل)

 

نصرة للثقافة العربية

كان لويس عوض أستاذا في الأدب الانجليزي، وذهب إلى بريطانيا في بعثة وعاد منها وترأس القسم الثقافي بجريدة الأهرام في الستينيات، وبدأ الكتابة عن أبي العلاء المعرّي، ودلس حقائق كثيرة، أرجع فيها أفكار أبي العلاء إلى فلاسفة الصليبيين، وحرف بعض أشعاره ظلما، فشعر محمود شاكر أنه أمام مؤسسة تحاول هدم الثقافة العربية، فقرر الرد عليه بكتاب "أباطيل وأسمار" أي الأمور الباطلة والمسامرات التي لا ترقى إلى مواجهة نقدية، وكان هذا نوعا من السخرية المُبطنة، وجاء في أولى صفحاته وجهته التي تحرك امتثالا لها وهي دفاعا عن الأمة التي تقتحم من جهتين إما احتلال الأرض، أو اختراق الثقافة وتغييرها. وفي عام 1984، فاز محمود شاكر بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي.
 
هكذا عاش العلّامة أبو فهر محمود شاكر فترة كان عنوانها التغريب وسيطرة المُحتل، بعقل عربي واع للغزو الفكري الغربي، فكتابه "رسالة في الطريق" إلى ثقافتنا يستعرض المنظور التاريخي لواقعنا بداية من الحملة الفرنسية، وكيف أن نابليون أحضر معه عدد من المستشرقين ليزرعوا أفكارهم، قبل أن يزرع هو جنوده وبنادقه، جدير بالذكر أنه كان يحفظ شعرا انجليزيا ويطالع كتب الثقافات الأخرى ولكن بحد فاصل يجعله محافظا على فكره وثقافته، كما يقول: "أقرأ لأعرف كيف يفكرون لا لأفكر كما يفكرون".
 
من المؤسف أن يغيب اسم رجل كهذا عن ذاكرتنا وتاريخنا، من المؤسف ألا يكون هناك احتفال به وبآثاره؛ إذ هو من أوائل الذين قاوموا تغريب الثقافة العربية، ولكن إن نسينا نحن وغفلنا فالتاريخ باق والأدب العربي لا ينسى رجاله، رحم الله العلّامة محمود شاكر، ونفعنا بعمله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.