شعار قسم مدونات

ماركسيون صوفيون.. انبعاث جهادي متجدد!

مدونات - كتيبة الجرمق
في 14 شباط/فبراير 1988، انفجرت سيارة ثلاثة من مقاتلي حركة فتح في ليماسول بقبرص، لم يكن الانفجار الذي بدا خاتمة لمسيرة طويلة من القتال سوى بداية جديدة لشهداء قبرص، والذين بزغوا أكثر من مرة، وتجدّدوا أكثر من مرة، ولم يكن هذا غريبا بالنسبة لهؤلاء الصوفيين الماركسيين!

 

تهتم أدبيات الإسلاميين بمفاهيم الإخلاص والتجرّد، وتذكّر "الأخ المسلم" دائمًا بأنّه على ثغر من ثغور الإسلام، وتمنح التجربة الصوفية الأولوية للمعنى، أي انطماس "السوى" في الغاية، والفناء فيها. وتنسطر في صفحات التراث الإسلامي العديد من حكايات العبّاد والزّهاد المرابطين في الثغور، والحق أن تجربة الماركسيين الذين استشهدوا في قبرص قد بدأت من هنا، وتكرّست حين الشهادة هنا، ثم استمرت في هذا الموضع!

 

وَصْفُهم بالماركسيين، هو نوع من التعميم، والتسليم بما اصطلح عليه في التأريخ للتجربة، ولكن الأمر لم يكن كذلك تمامًا، فالاسترشاد بنظريات ماوتسي تونغ، لم يكن ليعني أن كل من انتسب لتيار الشهداء الثلاثة كان ماركسيًّا، وإلا فقد عُرف أبو حسن قاسم (محمد محمد بحيص) -القائد الفعلي للتيار- بالتديّن منذ البداية.

 

ما إن انصرم العام 1976 حتى كان التيار "الماوي" في حركة فتح، قد أنجز نقده للماركسية، وصفّى حسابه معها، مقتربًا بالتدريج نحو الإسلام، حتى أتمّ انتقاله من بعد الثورة الإيرانية في عام 1979

لكنّهم عمومًا عُرفوا بماويي فتح، وانبثقوا عن سجالات اليسار الفتحاوي بعد أحداث أيلول بالأردن والانتقال إلى لبنان. ببساطة، قال هؤلاء: لماذا ننشغل بالتلاوم، ولماذا لا نبادر إلى القيام بالواجب؛ ونخرج من حالة الاصطفاف الفتحاوي الداخلي، والتحليلات اليسارية الطفولية لأزمة الحركة الوطنية، إلى فضاء الفعل والمبادرة؟!

 

وبالرغم من أن منظّرهم الأبرز "منير شفيق" كان ماركسيًّا بالفعل، وانتقل من الحزب الشيوعي الأردني إلى حركة فتح، إلا أنّ "ماويته" التي وُسم بها، قادته إلى البحث عن نظرية ثورية تنبثق من عمق الجماهير. اشتهرت المقولة الماوية القائدة إلى الجماهير بـ"خطّ الجماهير"، وعلى أيّ حال، وما أن انصرم العام 1976 حتى كان التيار "الماوي" في حركة فتح، قد أنجز نقده للماركسية، وصفّى حسابه معها، مقتربًا بالتدريج نحو الإسلام، حتى أتمّ انتقاله من بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، دون أن يعني هذا أن الانتقال كان شاملا وعلى نمط واحد، فقد تباينت مواقف منتسبي التيار، كما تباينت أشكال علاقاتهم بالإسلام، كما تباينت مصائرهم ومآلاتهم.

 

ماويو فتح، السرية الطلابية، الكتيبة الطلابية، كتيبة الجرمق، سرايا الجهاد الإسلامي؛ تلك كلها تسميات في مسيرة هذا التيار. تلك المسيرة التي تضمنت مسلكية قتالية وثورية نظيفة ومبادرة، وتستند إلى التحليل السياسي الصحيح، غطت لبنان كله، إن في الحرب الأهلية اللبنانية، أو في الجنوب اللبناني في قتال الاحتلال الإسرائيلي وعملائه، أو في القتال الفتحاوي الداخلي، أو في حصار المخيمات، ثم بالانتقال إلى داخل الأرض المحتلة وإرسال عمليات الدوريات إلى الداخل، ثم بتأسيس سرايا الجهاد الإسلامي. وفي أثناء ذلك كله، برزت محطات ضخمة، ظلّت راسخة في ذاكرة الفلسطينيين، مثل الصمود في قلعة شقيف، وعملية الدبويا، وعملية حائط البراق، ومحاولة تفجير مبنى رئاسة الوزراء.

 

تأثّرت البداية بتجربة المرابطين في المغرب العربي، وكان الدافع سدّ ما أمكن من ثغرات، مع اهتداء متدرج بالإرث الإسلامي، وكانت الغاية القيام بالواجب، لا تخليد الذات، ولا الاصطفاف بين مراكز النفوذ، ولم تكن الغاية كذلك تأسيس تنظيم جديد، وقد أطال ذلك من وجودهم داخل فتح ما دامت هذه الأخيرة تقاتل، وشعارهم أثناء ذلك كلّه، أن يكونوا الحصوة التي تسند الجرّة، أو بتعبير آخر "العامل المساعد".
   

 

بعد أن انتقل كل من أبي حسن قاسم، وحمدي التميمي (محمد باسم سلطان)، فكريًّا، وبشكل كامل، إلى الإسلام، وأسّسوا سرايا الجهاد الإسلامي، وبدؤوا بدعم المجموعات الإسلامية الناشئة داخل الأرض المحتلة، وفي علاقة متميزة مع المجموعة التي كان يقودها الدكتور فتحي الشقاقي.. كانت آمالهم تزحف نحو ما تخيلوه منذ سبعينيات القرن الماضي.

 

في أواسط سبعينيات القرن الماضي، ولا تزال الثورة الفلسطينية في لبنان في عنفوانها، قدّروا أن الثورة الفلسطينية لا بدّ وأنّ لها أجلا في لبنان، ومنذ ذلك الوقت أخذوا يدفعون لإطلاقها داخل الأرض المحتلة، بعمليات الدوريات، ثم وبعد انتقالهم للإسلام، بتأسيس سرايا الجهاد الإسلامي، ودعم كل من حركة الجهاد الإسلامي والمجموعات الإخوانية المقاتلة الأولى، وبحسب بيان لكتائب القسام، فإنّ الشهيد ميسرة أبو حمدية، الذي استشهد في صفوف أسرى حماس في سجون الاحتلال، هو أحد كوادر هذا التيار الذين درّبوا المجموعات الأولى لكتائب القسام، والذين عادوا وساهموا مساهمة قتالية فاعلة في انتفاضة الأقصى. أعضاء آخرون من هذا التيار، مثل الشهيدين جهاد العمارين ومروان زلوم، ساهموا في تأسيس كتائب شهداء الأقصى أثناء انتفاضة الأقصى.

 

كثيرًا ما طُرح سؤال يقول: لماذا لم تستمر تجربة سرايا الجهاد الإسلامي؟ بصرف النظر عن المحاولات الموضوعية للإجابة، فإنّ هذه التجربة لم تر نفسها إلا عاملا مساعدًا، انمحت الذات وظلّ الهدف الكبير، ورأوا أنّ وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي في طليعة المقاومة يغني عن إضافة تنظيمية باسم ثالث.

 

لكن هل انتهت التجربة فعلا، أم بدأت في طور جديد باستشهاد الثلاثة في قبرص؟
حينما استشهد أبو حسن قاسم، وحمدي التميمي، ومروان كيالي، كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ذروة عطائها، أمّا هم فقد أسلموا الأمانة للجماهير، بعدما ظلّوا يدفعون نحو تفجير هذه الانتفاضة طوال ثلاثة عشر عاما، وبعدما نضجت الحالة الإسلامية الجهادية داخل الأرض المحتلة، كان للمقاتلين الثلاثة أن يرتاحوا ويطمئنوا إلى حصيلة تجربتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.