شعار قسم مدونات

ما بين أردوغان والسلطان عبد الحميد الثاني

مدونات - أردوغان

يبذل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في السنوات الأخيرة جهودا حثيثة لإعادة الاعتبار لشخصية السلطان عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين الفعليين الذين حكموا الدولة العثمانية بين عامي (1876-1909) قبل أن يتم خلعه وتنصيب سلاطين ضعفاء وصوريين مكانه تمهيدا لمرحلة سقوط السلطنة والتحول نحو الجمهورية التركية الحديثة عام 1923.

    

وفي مئوية وفاة عبد الحميد الثاني قبل أيام قليلة، افتتح الرئيس أردوغان مؤتمرا خاصا بتأبين السلطان، وانتقد بشدة حال العداء الذي يناصبه الأوروبيون والعلمانيون الأتراك لتاريخ عبد الحميد الحافل بالإنجازات العظيمة، ودعا إلى إعادة دراسة سيرته بشيء من الإنصاف والتقدير، وفي الحقيقة فإن هذا المؤتمر لم يكن سوى فعالية بسيطة من جهود متظافرة تهدف لإحياء مكانة السلطان عبد الحميد الثاني في النفوس، كان منها قيام التلفزيون الحكومي بإطلاق مسلسل درامي يروي سيرة عبد الحميد وسنوات حكمه، ما زال قيد البث منذ فبراير/شباط من العام الماضي، إضافة لعشرات الندوات وورشات العمل ومئات المقالات والبرامج التلفزيونية التي تتناول سيرته بالفخر والتمجيد بعد عقود من التشويه أو الإهمال على أقل تقدير.

     

يُعرف السلطان عبد الحميد الثاني في الأوساط العربية، لا سيما التي لم تتطبّع بالأطروحات المشوِّهة لسيرة العثمانيين، بكثير من الاحترام والتبجيل، ويُذكر اسمه متلازما مع رفضه عرض رئيس الحركة الصهيونية آنذاك ثيودور هرتزل بيعه أراضٍ في القدس مقابل سداد ديون دولته، لكن الأتراك المحافظين من أنصار العدالة والتنمية لديهم أسبابهم المتنوعة لتمجيده وإحياء مكانته من جديد، فعبد الحميد هو آخر السلاطين الأقوياء والمهابين في الإمبراطورية العثمانية، وهو من القادة الذين أدخلوا الإصلاحات السياسية إلى بنية الدولة مثل الدستور والبرلمان، كما أنشأ سكك الحديد التي تربط عاصمته ببقية الأراضي العثمانية، واهتم كثيرا بالتعليم؛ فشيَّد المدارس والكليات في مختلف التخصصات العلمية، وقد عُرف إلى جانب قوته بالتقوى والورع، مما جعل منه شخصية  تستحق الاحتفاء من قبل الأتراك المتدينين والمحافظين كمصدر فخر تاريخي ومعنوي يوازي أتاتورك ومكانته.

       

يمر أردوغان بالتحديات ذاتها التي واجهت السلطان عبد الحميد الثاني، فالتحديات الداخلية التي يواجهها لم تقتصر على حملات التشويه أو الوسم بالسلطوية وحسب، إنما وصلت حد التآمر بتنفيذ انقلاب عسكري ضده

لكن سببا آخر أكثر قوة بات يشكل الدافع الرئيس وراء الاهتمام الأخير بالسلطان عبد الحميد الثاني، وهو حالة التشبيه والمقاربة ما بين شخصية عبد الحميد وشخصية الرئيس أردوغان، وطبيعة الظروف والتحديات التي مرت بها الأمة التركية في عهد كلا الرجلين.. فكما تحلى عبد الحميد بالقوة والكاريزما والإنجازات الهائلة، فإنه لقي في الوقت ذاته معارضة شديدة في الخارج من قبل أعداء الإمبراطورية العثمانية الذين لقبوه بالسلطان الأحمر في محاولة لتشويهه ووصمه بارتكاب المجازر والفظاعات، كما لقي معارضة شرسة من الداخل، لا سيما من طبقة المثقفين والمتعلمين، ولم يشفع له أنه صاحب فكرة أول دستور وبرلمان عثماني، حيث وصف بالرجل "السلطوي" عندما علّق العمل بالدستور والبرلمان خلال حرب بلاده مع روسيا، وباتت المدارس والكليات العلمية التي أنشئت بفضله منطلقا لحركات التمرد والتحريض ضده.

       

ويرى الأتراك المحافظون من أنصار العدالة والتنمية، أن الرئيس أردوغان يمر بالتحديات ذاتها التي واجهت عبد الحميد، فتركيا القوية التي بناها الرجل وحزبه على مدار أعوام باتت مصدر إزعاج لحلفاء الأمس الذين لا يخفون انتقاداتهم وتحريضهم الحاد ضد أردوغان، إلى جانب دعمهم المباشر وغير المباشر للمجموعات الكردية الانفصالية في تركيا ودول الجوار، كما أن التحديات الداخلية التي يواجهها لم تقتصر على حملات التشويه أو الوسم بالسلطوية وحسب، إنما وصلت حد التآمر بتنفيذ انقلاب عسكري ضده، وقد كان الرئيس أردوغان ذاته قد نظّر للمقاربة التاريخية بينه وبين عبد الحميد الثاني عام 2015 في معرض انتقاده لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية التي استهدفته في عدة مقالات حيث قال: "إن هذه الصحيفة قد وصفت السلطان عبد الحميد الثاني من قبل بالحاكم السلطوي، واليوم توجه إلى الجمهورية التركية سهام الكراهية ذاتها التي وجهتها سابقا إلى الدولة العثمانية".

        

 هذه المقاربة التاريخية أصبح اليوم لها الكثير من المدافعين بين أنصار حزب العدالة والتنمية، ولا تقتصر على البسطاء وحسب، إنما يتحدث فيها الكثير من السياسيين والكتاب والأكاديميين. فعلى سبيل المثال، وأثناء حضوري لأحد المؤتمرات في إسطنبول قبل أسابيع، لفتت نظري كلمة ألقاها بروفيسور في الاقتصاد يرأس إحدى الجامعات التركية المعروفة، طاف خلالها في رحلة حول شخصية ومناقب عبد الحميد الثاني، وكانت كلمته تحمل رسالة واحدة مفادها أن الدولة العثمانية سقطت بسبب ما أسماه خيانة المثقفين العثمانيين للسلطان، حيث لم يتفهموا التحديات التي كانت تواجهه فاختاروا أن يشقوا الصف ويطلقوا سهام النقد تحت ذريعة رفض السلطوية عوضا عن دعم سياسات عبد الحميد وقرارته، مؤكدا على أن تركيا اليوم بقيادة أردوغان تواجه التحديات ذاتها التي واجهها عبد الحميد، وعلى المثقفين أن لا يقعوا في الخطأ الذي وقع به أجدادهم حتى لا تنهار تركيا الحديثة كما انهارت الإمبراطورية العثمانية.

         

ومن الواضح أن المدافعين عن هذه المقاربة التاريخية يخلصون إلى استنتاج مفاده أن على الرئيس التركي ألا يكترث بأي نوع من الانتقادات التي يسديها أعداؤه أو أصدقاؤه، فالتحديات التي تعيشها البلاد تتطلب حكم الرجل القوي الحازم، وأن أي انتقادات لمثل هذا النمط من الحكم قد تصل إلى درجة الخيانة نظرا لنتائجها الكارثية، وبغض النظر عن التقييم الموضوعي والعلمي لهذه المقاربة، ومدى سلامة الاستنتاج الأخير الذي يقفز إليه المتحمسون لها، إلا أن الحقيقة الوحيدة الماثلة في هذا السياق هي أن كتابة التاريخ وإعادة روايته واستحضاره هي عملية سياسية صرفة، يستعير فيها السياسيون ما أمكنهم من أحداث وشخوص تاريخية لتوظيفها في معركة عنوانها المستقبل لا الماضي أبدا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.