شعار قسم مدونات

الاتحاد المغاربي أو الأمل المجهض

الاتحاد المغاربي

تحل الذكرى الثلاثون إلا سنة منذ أن أقدم آنذاك القادة المغاربيون الخمسة على توقيع اتفاقية اتحاد المغرب العربي بمراكش، وخرجوا جميعهم إلى شرفة بلدية مراكش، بأيد متلاحمة مرتفعة إلى السماء، ليُحَيّوا الجماهير وقد سرى الدفء بالمدينة الحمراء، وتبدت بواكير الربيع بمدينة النخيل مؤذنة بخصب بلاد المغرب قاطبة.

 

كان لذلك اليوم أن يكون أجمل يوم في حياتي لو انتهى الاتحاد إلى ما كنا نؤمل من وحدة وتعاون وتوثيق العُرى وما تطلع له جيل ماهدي الاستقلال، ولحقّ ما كانت كتبته مجلة "دوأكونمست" قبل شهور معدودة، من أن الاتحاد لو تحقق لكانت بلدان شمال إفريقيا أقوى اقتصاد في الشرق الأوسط، لأني عشت ملابسات الحدث وشؤونه وضروبه وتداعياته، ولذلك فالحسرة تملؤني مضاعفة.

 

كنت حينها مكلفا بالدراسات بوزارة الخارجية، وواكبت أثناءها  المراحل التي أفضت إلى المعاهدة، منذ اللقاء المغاربي الذي انعقد في أعقاب مؤتمر القمة العربية التي انعقدت بالجزائر في يونيو 1988، بمنتجع زرالدة ضاحية الجزائر العاصمة، إلى كل اللقاءات الفنية التي التأمت عقبها، وما اعترى ذلك من انتفاضة بالجزائر في أكتوبر من تلك السنة والتغييرات التي عرفتها الجزائر جراء ذلك، ومنها تولي المرحوم العربي بن السايح لحقيبة الدبلوماسية خلفا لأحمد الطالب الإبراهيمي، وتولي المرحوم عبد الحميد مهري الأمانة العامة لجبهة التحرير والذي كان حينها سفيرا لبلده في الرباط، خلفا للشريف مساعدية.

 

من الضروري قراءة الوضع الحالي والتحديات التي يطرحها، وقراءة الأسباب الموضوعية والذاتية التي حالت دون نجاح الاتحاد المغاربي، إذ لا خيار سوى الاتحاد، ليس لأنفسنا فقط، ولكن للعالم العربي

أذكر أن التغيير المفاجئ، طرأ غداة استقبال المرحوم الملك الحسن الثاني للوفد الجزائري في نوفمبر من ذات السنة بقصره بفاس، يوم جمعة بعد العصر، وكان من يرافقني في حافلة صغيرة، أقلّتنا من مطار فاس إلى القصر، شاب جزائري لا يكبرني إلا بسنوات قليلة، كان رئيس قسم ما كان يسمى بالصحافة والإعلام في وزارة الخارجية الجزائرية، بادي الدهشة من تماثل التضاريس بين المغرب والجزائر، حسب قوله، تُذكره مروج سهل سايس وجنانها بمراتع صباه ببجاية، هو رمضان العمامرة، ومن سيصبح وزيرا للخارجية. كان الحديث أغلبه بالفرنسية، وتشاجن بعدها بالأمازيغية وقد علمت أصوله القبائلية، ووقفت حينها على ذكائه وعمقه ودماثة خلقه.

 

خرج القادة من قاعة بلدية مراكش وقد انطلقت أسارير الملك المرحوم الحسن الثاني، وكان يخشى انفلاتا خطابيا للقائد الليبي حينها المعمر القذافي، وكان الانفلات الوحيد هو ذاك الذي أعقب التوقيع حين انبرى بعض من حواري القذافي يجأرون بما بدا وأنه كان مهيأ ومقصودا: "من مراكش للبحرين، شعب واحد لا شعبين"، وكأنما ليدلل القائد الليبي، أن الوحدة المغاربية ليست إلا خطوة، وأنها ليست أعز ما يطلب.

 

وتناسلت بعدها الاجتماعات، ومنها بعد اللقاء التأسيسي، أول قمة في يناير 1990 بتونس، ثم القمة الثانية بالجزائر في يوليوز. وما لبث الاتحاد أن اهتز مع اجتياح العراق للكويت في أغسطس 1990، وعطّل ذلك عمليا سير الاتحاد، وطالب الملك الراحل الحسن الثاني تأجيل القمة المزمع انعقادها بليبيا عقب الحرب في فبراير 1991. كان قد سبق أن أوفد من كان وليا للعهد آنذاك، من سيصبح الملك محمد السادس، إلى طرابلس من أجل تأجيل القمة، في ظل تداعيات أزمة الخليج، والتزم القائد الليبي بذلك، ليفاجأ الوفد المغربي، بعدها برئاسة المرحوم عبد اللطيف الفيلالي، في إطار اجتماع وزراء الخارجية، بإصرار ليبيا على تنظيم القمة، وقد انتقلت الوفود حينها من طرابلس لبنغازي حيث استقبل القائد الليبي رئيس السودان عمر البشير.

 

انعقد الاجتماع الرئاسي براس لانوف بليبيا، من دون الملك الحسن الثاني. بدت بوادر التصدع واستفحلت مع عاملين اثنين هما من دون شك من تداعيات حرب الخليج. الأول هو أزمة لوكربي، والحصار الذي ضُرب على ليبيا إثرها، واتهام ليبيا بالضلوع في تفجير طائرة أمريكية، والثاني هو الوضع في الجزائر، ومع غليان الشارع في خضم أزمة الخليج، وتَصدُّر الجبهة الإسلامية للإنقاذ للمشهد، إلى أن انتهى الأمر إلى توقيف المسلسل الانتخابي في يناير 1992، ودخول الجزائر نفقا مظلما، وبخاصة بعد اغتيال المرحوم بوضياف، مَن كان رئيس اللجنة العليا للدولة، في يونيو من ذات السنة.

 

التقت الاعتبارات الموضوعية بأخرى ذاتية كي يتعثر الاتحاد، منذ القمة الأولى والتي انعقدت بتونس، في يناير 1990. كان الملك الحسن الثاني قد ألقى خطابا مرتجلا كدأبه، وشكر رئيس القمة، كما جرت بذلك العادة، وزل لسانه إذ عوض أن ينطق باسم زين العابدين بن علي، رئيس الاتحاد، نطق باسم الشاذلي بن الجديد، ثم انبرى في ختام كلمته يتلو قصيدة من نظمه، يعارض فيها قصيدة أبي القاسم الشابي، إذا الشعب يوما أراد الحياة، أي على منوالها في الوزن والقافية، أرادها أن تكون نشيدا للاتحاد.

 

فوجئ الملك بالدعوة في اللجان الفنية بإطلاق مباراة شعرية من أجل شعار للاتحاد، وهو الأمر الذي لم يستسغه الملك الراحل، واعتبر أن نظمه لقصيدة تستوحي روح نشيد الشابي وعلى منواله مَكْرمة ما كان خليقا لرئيس تونس أن يردها، وكان رد الحسن الثاني باتفاق مع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الدعوة إلى انعقاد لجنة ثنائية مشتركة بين البلدين، وإعطائها دفعة قوية، عقب القمة. وبالفعل طار وزير الخارجية المغربي عبد اللطيف الفيلالي من تونس إلى الجزائر، وكنت في صحبته، واستُقبل الوفد المغربي بحفاوة خاصة في جنان الميثاق، وأقيم عشاء حضرته الحكومة الجزائرية أغلبها، برئاسة وزير الخارجية السيد أحمد غوزالي.

 

كان الرهانُ بالنسبة للمغرب على الجزائر، وكان من شأن تعزيز العلاقات بين البلدين تذويب الخلاف حول الصحراء، وكان الملك الحسن، في ظل هذه الأجواء الإيجابية قد استقبل بمراكش وفدا من البوليساريو في مارس 1989. وهو الأمر الذي كان غير متوقع بتاتا، وهو كان يشي بانفراج.

 

في أعقاب حدث فندق أسني بمراكش، إذ أطلق فرنسيون من أصول جزائرية النار على سياح في غشت 1994، فرض المغرب التأشيرة على الرعايا الجزائريين، والفرنسين من أصول جزائرية
في أعقاب حدث فندق أسني بمراكش، إذ أطلق فرنسيون من أصول جزائرية النار على سياح في غشت 1994، فرض المغرب التأشيرة على الرعايا الجزائريين، والفرنسين من أصول جزائرية
 

إلا أن العلاقات ما بين المغرب الجزائر ساءت بسبب حدث جانبي، لسوف ينضاف إلى معطيات موضوعية، ومنها حوار خاص جمع الملك الحسن الثاني بمدير مجلة النوفيل أوبسرفاتور، جان دانيل، وهو من أصول جزائرية، من يهودييها، ممن استوطنوا فرنسا. كانت الجزائر تحت تأثير جبهة الإنقاذ الإسلامية. كان مما سربه الصحافي لمجلة جون أفريك، أن الملك يلقي بصنارته، وسيان بالنسبة إليه السمكة التي تلتقم الطعمة، أكانت الشاذلي، أم جبهة الإنقاذ. ولم يستسغ ساكنُ قصرَ المرادية هذا التصريح وتأذت العلاقات رغم أن الملك أوفد مستشاره أحمد رضا كديرة لتبديد الثلج، ولكن شيئا منذ ذلك الحين انكسر بين القائدين.

 

ثم انضافت سلسلة من الأحداث الموضوعية منها الوضع في الجزائر، واغتيال بوضياف، ثم حوار للملك لجريدة الشرق الأوسط في خريف 1993، قال فيه، متحدثا بصفته باحثا في التاريخّ، إن الإبقاء على المسلسل الانتخابي بالجزائر، كان سيكون مختبرا، أو تجربة. مما جر عليه وعلى المغرب حملة إعلامية لاذعة من الإعلام الجزائري. وفي أعقاب حدث فندق أسني بمراكش، إذ أطلق فرنسيون من أصول جزائرية النار على سياح في غشت 1994، فرض المغرب التأشيرة على الرعايا الجزائريين، والفرنسين من أصول جزائرية. كان القرار مخالفا لمنطوق معاهدة مراكش وروحها، وردت الجزائر بالمثل مع إغلاق الحدود البرية. أما ما سيحكم على الاتحاد بالموت الإكلينيكي فهو مطالبة وزير الخارجية المغربي الأمين العام بتجميد الاتحاد في ديسمبر 1995. ومنذ ذلك التاريخ لم ينبعث الاتحاد بعدها.

 

ومع ذلك، يظل الاتحاد أملا تهفو له النفوس، مثلما عبر عنه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في رسالة للملك محمد السادس، من أن الاتحاد يظل خيارا استراتيجيا، ويستلزم إطارا جديدا. ومن الضروري قراءة الوضع الحالي والتحديات التي يطرحها، وقراءة الأسباب الموضوعية والذاتية التي حالت دون نجاح الاتحاد المغاربي، إذ لا خيار سوى الاتحاد، ليس لأنفسنا فقط، ولكن لهذا العالم العربي، الذي كان نصيرا لنا إبان الاستقلالات، ويحتاجنا، مثلما نحتاجه، ولا يليق بنا، نحن المغاربيين أن نخيس برسالة الماهدين، أو نذهل عما تفرضه المصلحة والضرورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.