شعار قسم مدونات

الهويات المتحولة والثابتة

blogs المجتمع

ربما يكون الحديث عن الهوية لدى الملايين أشبه بالحديث عن الوجبة المفضلة لديهم أو الأماكن الأكثر قربا لقلوبهم وأرواحهم، أو ربما أشبه بالحديث عن طقوس فنجان القهوة في الصباح، لا لشيء سوى أن الهوية متلاصقة بنا وملازمة لغريزة البقاء والزمكان، ونابعة من لاوعينا الوجودي والراهن كلما حدقنا في المرآة أكثر، أو بحثنا عن الآخر فينا! ثمة انتماء بيولوجي وعاطفي وجغرافي وبيئي يجعل منا كائنات هوياتية بالفطرة، قبل أن يتشكل الوعي المتراكم فينا بشقيه الفكري والحسي، لو أردنا التوسل بأطروحة الفيلسوف إمانويل كانت.

 

ربما نكون كائنات فكرية وحسية، كما يرى كانت، لكننا في نهاية المطاف أمام عقبة كبيرة تجعل من هويتنا البنيوية جحيما لا يطاق، إذا كانت الهوية التي تحاصرنا مأهولة بالعنصرية والطائفية والتبني الأيدولوجي والتطرف ورفض الآخر لمجرد أن هويته البنيوية مختلفة وتسير في خط معاكس لما ألفناها واعتدناه. ربما ما نراه من رفض لاحتضان اللاجئين من قبل الكثير من الحكومات العربية والأجنبية جزء وجودي واستراتيجي لمثل هذا التمثل الهوياتي الأيدلوجي، في الوقت الذي نشاهد فيه نزوح ملايين السوريين واليمنيين والليبيين والفلسطينيين من بلدانهم قسرا، بسبب ظروف الفوضى السياسية والأيدولوجية والهيمنة الاستعمارية، مما جعل فكرة الهوية في العصر الراهن أمرا لا مهرب منه، والأكثر تعقيدا من هذا هو تخلي الكثير من الحكومات العربية والأوروبية والأمم المتحدة عن دورها الإنساني والأخلاقي لانتشال الملايين من وحل العنف والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والثقافي واللغوي أيضا. 

عدم تقبل الاختلاف في الهوية والثقافة والدين والرؤية هو تطرف في تقبل صورة غير مطابقة لما نتوقعه أو نريده أو نحبه أو نألفه ونعتبره المقدس والمألوف والطبيعي

عليك أولا أن تكتشف أن ذاتك التي تعرفها ليست الوحيدة لديك. المهم أن تجد ذواتك الأخرى وتتحرر من وهم ومأزق ذاتك الوحيدة. من الممكن أن تكون عربيا وتولد في فرنسا، ثم تعيش بقية حياتك في ألمانيا، ثم تتعرف على ملذات المنفى متأخرا: كأن تولد مرات عديدة، وتنتمي لكل أفراد البشرية، وتعتنق دياناتهم التي تعرفها، وتتكلم لغات ليست لك، وتلبس لباسا لا يشبه بشرتك العربية. قد تولد من أم عربية وأب عربي، ولا تبرح قريتك أو مدينتك التي ولدت فيها، وتفعل الشيء نفسه، وينتابك شعور مرضي أو سيكولوجي بأنك تسكن روح شخص يعيش في مدينة سان دييغو وتتصرف كشخص يعيش في دمشق، وتتكلم وكأنك ابن قبيلتك الوحيد، وتحب كأنك أحد مجانين شوارع بيركلي، وتحب الحياة وكأنك لن تموت. أنت كل هؤلاء ولا أحد من هؤلاء. أنت كل ما تجهله عن نفسك.

أحب الأماكن لقلبي المكتبات، ففيها أولد كل يوم مرة أو مرتين، وفيها ألتقي كل الذين ماتوا والذين تخيلتهم، وفيها أصبح شخصية متخيلة تسافر مع بخلاء الجاحظ، وتصادق وحوش الشنفرى، وجميلات اللورد بايرون، وفيها أتجرد من كل مجانين شكسبير، وأصير نبها لمتاهة بورخيس، وأتأمل حمار سانشو الذي حير قراء ثيرفانتس، وتخطفني جنّيات مصباح علاء الدين، وأتماهى مع صعاليك العرب وأغربتهم، وتقتلني قصائد لوركا ورامبو على غرة. في المكتبات فقط تتشابه الهويات الهجينة، وتصير مسرحا للخيال والتاريخ والزمن. ربما تتجلى هذه الفكرة أكثر في حوار محمود درويش الذي يستنطق فيه صديقه إدوارد سعيد، وهو يصف رحلته الكونية مع المنفى والهوية والارتحال بين الهويات المركزية والهامشية:

يحبُّ الرحيل الى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافيةً للجميع.
هنا هامِشٌ يتقدّمُ. أو مركزٌ
يتراجَعُ. لا الشرقُ شرقٌ تماما
ولا الغربُ غربٌ تماماً
فإن الهوية مفتوحَةٌ للتعدّد

إن عدم تقبل الاختلاف في الهوية والثقافة والدين والرؤية هو تطرف في تقبل صورة غير مطابقة لما نتوقعه أو نريده أو نحبه أو نألفه ونعتبره المقدس والمألوف والطبيعي، فالهوية التي تنبع من أسطورة الأصل النقي، أو الأصل المتفوق حضاريا وعرقيا وجغرافيا وتاريخيا، هي الصورة النمطية الأكثر حضورا في الوعي البشري، ومن خلالها تتشكل صورة الوطنية الضيقة، والجغرافيا المقدسة، والتاريخ الثابت. 

لكن الاختلاف ليس مناقضا لفكرة الهوية المتطابقة، أو السيان التي تحدث عنها أرسطو، بمعنى آخر، الاختلاف لا علاقة له بالعزلة الحضارية أو الإنسانية، وإنما هو سبب جوهري لقوة الأمم وتعالقها وبناء مزيجها المتنوع بكل أطياف الجنس البشري وطاقته اللامحدودة، فأكثر الحضارات قوة تلك التي تحارب التعصب باسم العرق والدين واللون، رغم وجود سلطة التدين التي تقصي الآخر وتجعل منه خطرا مرعبا في كل المجتمعات البشرية، مما يولد موجات عنف مرعبة أو ما يسمى "بالعنف المضاد"، وفي كل الحالات يتم زج الدين في وحل السياسية. ثمة حضارات قوية يصعب فيها التجانس مع الآخر، ولها طابع في غاية التعقيد مثل الحضارة اليابانية، لكنها قادرة من خلال بنيتها العلمانية والبوذية معا على تشرّب الاختلاف ومواكبته، ومن يقرأ تمظهرات إمبراطورية ميجي يدرس هذه المفارقة.

لا نستطيع أن نزعم أن الذات في سياقها البيولوجي أو الثقافي أو النفسي هي ذات عدمية تقاوم صورتها الوجودية من خلال الهروب من كل هذه السياقات أو التمرد عليها جملة وتفصيلا، بل هي ذات متحولة فاعلة
لا نستطيع أن نزعم أن الذات في سياقها البيولوجي أو الثقافي أو النفسي هي ذات عدمية تقاوم صورتها الوجودية من خلال الهروب من كل هذه السياقات أو التمرد عليها جملة وتفصيلا، بل هي ذات متحولة فاعلة
 

ومن خلال ملاحظات شخصية فيها من المفارقة الشيء الكثير في سياقنا العربي الإسلامي، وجدت أن الكثيرين يمارسون العنصرية باسم العرق الأصيل، أو المنبت المتفوق للقبيلة أو العشيرة، وفي إرثنا الثقافي أمثلة لا تحصى لمثل هذه التجليات في التعصب الثقافي بكل أشكاله والتي يسميها ابن خلدون "النزعة الطبيعية"، فالبعض لا يصاهر إلا جماعات بأم عينها مثلا، لأن صورة الذات العليا أو الجمعية، من العادات والتقاليد والتدين والاتباع هي التي تحكم سلوك الأفراد وصورة الذات أمام الجماعة وسطوة الوعي الجمعي الثابت.

و بعيدا عن نظرية المؤامرة كفكرة تختزل كل هذا الخراب والفوضى التي بين ظهرانينا، ثمة إرث استعماري وإمبريالي ضارب في التاريخ له سطوته الثقافية والسياسية والاجتماعية فيما يخص تحولات مفهوم الهوية وثباته في خضم اختزالات ثقافية مرعبة تجعل العربي المسلم السني في مواجهة ثقافية سياسية مقابل العربي الشيعي، والعربي المسلم مقابل العربي النصراني، وكثير من الأقليات غير العربية مثل الأرمن والكرد وغيرهم، المهم أن الهويات القاتلة ليست وليدة الفراغ، فهي نتاج الأيدولوجية السياسية والاجتماعية التي تلتهم الأخضر واليابس.

ومن أبجديات الهوية لدى الملايين: أنا ابن وراثتي، ولست ابن تجربتي أو رؤيتي أو بشريتي، والملايين يعتنقون مثل هذه الكليشيهات الثابتة، أو ما يسميه جرامشي Hegemony أو الهيمنة الثقافية في أي مجتمع كائن، إذ يتم حقنها في دماء الناس من خلال قناتين: الإعلام والتعليم، وتتحول هذه القنوات إلى صورة نمطية يمارسها السياسيون وعامة الناس كصورة طبيعية للتفاعل البشري، لكن المؤلم أن هذه الصورة تتحول إلى صورة بوليسية صارمة صعب مقاومتها أو محاولة أنسنتها.

رغم سطوة فرويد على المدرسة النفسية الكلاسيكية، إلا أنه بالغ في تكثيف صورة الذات النرجسية وسطوة الأبوة عليها، وهنا يبدو أن جاك لاكان كان محقا في نقده لهاتين الصورتين من خلال إنقاذ الذات من نرجسيتها المفرطة. لا نستطيع أن نزعم أن الذات في سياقها البيولوجي أو الثقافي أو النفسي هي ذات عدمية تقاوم صورتها الوجودية من خلال الهروب من كل هذه السياقات أو التمرد عليها جملة وتفصيلا، بل هي ذات متحولة فاعلة، وتتسم بالثبات والتغيير في صورتها الشخصية والجمعية. ثمة ذوات تولد وثمة ذوات تموت، والفرق يبقى في القدرة على مقاومة وهم الثبات وثبات الوهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.